الساعة الأخيرة وعي النصر والهزيمة / أحمد خميس

المصدر / مسرحنا / نشر محمد سامي موقع الخشبة

لعل أهم ما يميز العروض التي يقدمها المخرج الكبير ناصر عبد المنعم هو انتصارها للحياة ورغبتها الأكيدة في صنع البهجة والامتلاء بأهمية الفن ودوره في المجتمع، فلن تلمح في تلك العروض نعرة كاذبة أو رغبة سطحية في تقديم موضوع ما، وإنما عادة أنت أمام حفر حقيقي على وتر قد لا يتلاقى مع مشكلات اجتماعية زاعقة وإنما محاولة للوعي والفهم والتنوير، هنا سوف تلتقي مع تيمات أو قضايا أو رهانات أساسية يعاني منها المجتمع أو ستلمح مشكلة معتنى بتكوينها التاريخي أو الراهن، يستوي في ذلك كونه يعتمد على كتابة رصينة من كاتب متمرس له تاريخ في العمل الدرامي أو كتابة جديدة ما زالت تتلمس طريقها للخوض في موضوعات مسكوت عنها، وعادة ما ستجده منتصرا لرؤى الشباب من الكتاب، في العرض الجديد للمخرج المتنوع صاحب الذائقة التي لا تركن لطريق واحد أو منهج إخراجي بعينه وجدناه يتلمس طريق جديد يحاول من خلاله تقديم وعي مدرك لطبيعة التعامل مع نص يعتمد بالأساس على اكترار الذكريات، فالمنهج الذي تم تقديمه في عرض “الساعة الأخيرة” للكاتب «عيسى جمال» يقوم على تفتيت الذكري وتناولها من الداخل؛ بحيث تبدو المشاهد غائمة إلى حد كبير؛ حيث يمرر المخرج كونها حلما يتم تداول أحداثه من خلال شاشة أو ستارة شفافة على اعتبار أنها خارجة للتو من عقل الشخصية الأساس وهي هنا شخصية «الكولونيل» والتفتيت يقوم على الدخول للحلم والعودة للحظة الآنية بمنهجية محكمة في التكوين، ولما كانت الفكرة الإخراجية تعتمد الستارة السيمائية الشفافة التي يمكن من خلالها تقديم بعض المشاهد المأخوذة عن الحرب أو تقديم بعض اللحظات المعقدة من حياة الكولونيل «سينمائيا»؛ بحيث يعي المتلقي بسرعة هذه التركيبة الجمالية ويفهم منها طبيعة التناول الذي يخلط التوثيق المدمغ بالذكرى التي تستدعي الأصوات والصور والأحداث وتحولها لشخصيات من لحم ودم، وهي مسألة تحتاج فنون أداء تعي التركيبة غير التقليدية وتنحاز لتكوينها الجمالي.
المسرحية التي كتبها المؤلف وحاز بها الجائزة الأولى في مسابقة «ساويرس» للتأليف المسرحي هذا العام تتناول موضوع الأثر النفسي السيء الذي خلفه إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما أثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال استعراض شريط الذكريات للكولونيل «توماس ويلسون» قائد الطائرة الذي نفذ المهمة الصعبة، تبدأ الأحداث والرجل يستعد للاحتفال بعيد ميلاده وحيدا بعد أن هجره الجميع فقط يحادث تمثال له في الركن القصي من المشهد المسرحي ونعرف من خلال المحادثة أن التمثال قد صنعه النظام للكولونيل احتفالا وتمجيدا لشخصه حيث قام بعمل جليل للولايات المتحدة أقنع العالم كله بأهميتها وقوتها الحربية الفتاكة، ولكن وبعد إدانة العمل سيء السمعة من المجتمع الدولي بعد عدة سنوات وملاحظة أحد النواب أن التمثال يمثل حجر عثرة في طريق تجديد أمريكا لوجهها نحو وجهة السلام والأمن الدوليين، فإنه من غير المرغوب في ذلك التمثال الذي يستعيد ذكرى بدت وصمة في جبين الكيان الذي يتلون كل فترة حسب الأفكار والأطروحات التي تبدل الوجه الشرس بوجوه أخرى أكثر سماحية، والفكرة البنائية التي يتحرك منها المؤلف تقدم لنا الموضوع بعد مشهد واقعي تبدأ من خلاله الأحداث؛ حيث يدخل للكولونيل جاره الذي أراد استعارة آلة قص الحشائش؛ إذ إن آلته معطلة وابنه أخذها للإصلاح ولم يعد، بعد خروج الجار الذي وعد بالعودة للاحتفال مع الكولونيل بعد تهذيبه للحديقة تبدأ الذكريات في مهاجمة الرجل على شكل مشاهد متقطعة تبدأ وهو طفل يتابع العلاقة المريضة بين والده ووالدته وتقدم لنا كيف قتل والده بعد وفاة أمه من خلال فكرة خبيثة لا تأتي لطفل في عمر السادسة، ثم تحوله الدراسي وتفوقه في العلوم الرياضية المعقدة حتى إن زملاءه أطلقوا عليه لفظة «الكولونيل» إيمانا منهم بشخصيته المتطورة التي حتما ستحوز مكانة مهمة في سلاح الطيران الأمريكي، ثم تبدأ مشاهد الحرب العالمية الثانية مطعمة بمشاهد علاقته بالبنت التي وقع في حبها والخصم العنيد له في الرياضة والدراسة، هنا تبدو أهمية المؤلف الذي يطور الحدث بنفس منطق الاتفاق الأولي مع المتلقي؛ إذ إن كل الأحداث خارجة من عقل الكولونيل وترتيبها المنطقي المتتابع يأتي هكذا «توماس» أراد أن يتتبع شريطه الخاص في حواره الغريب مع التمثال حسب الترتيب التسلسلي للأحداث، وبعد إلقاء القنبلة التي قضت على الاخضر واليابس وأنهت تماما مدينة هيروشيما، يتفهم توماس ما اقترفه من إثم عظيم وينزل بطائرته في مدينة أخرى بعيدة، فيقابل فتاة كفيفة ظنت أن ما حدث من انفجار هائل وصوت قوي علامة على إمكانية تحقيق حلمها في الرؤية وتعاملت مع الكولونيل على أنه الملاك الذي جاء خصيصا لإنقاذها، وهو الأمر الذي زاد من قيمة الحسرة عند توماس ويعد هذا المشهد واحد من أهم مشاهد المسرحية؛ إذ لعبت الدور الممثلة «سامية عاطف» وقدمت أداء مميزا أمام بطل العمل «شريف صبحي» يتكئ على الوعي والقدرة على التأثير من خلال الإيمان الحقيقي بالقضية وتقديمها بوعي فارق وهو الأمر الذي استشعره كل من حضر العرض, وتنتهي الأحداث كما هو متوقع لها ففي نفس الليلة يصاب الكولونيل بسعال شديد ولا يستطيع الوصول لعلبة دوائه ويموت وحيدا كما بدأ بعدها يدخل الجار الذي بدأ معه الحدث الدرامي ويفاجأ بالموقف فينعي الكولونيل بكلمات يستحقها.
تلك النهاية تعيدنا مباشرة لطبيعة تكوين الحدث والحوارات التي جاءت في معظمها متوقعة ومنتظرة ولا يميز مواقفها سوى الاختلافات الطفيفة بين المؤدين في فنون الأداء وطبيعة تكوينها من قبل المؤلف فهي شخصيات شبه ميكانيكية تساعد التكوين على رسم صور الشخصيات وطبائعها.
وعلى نفس نهج المخرج تتبع مهندس الديكور نفس الفهم، فقدم ديكورا بسيطا، فقط منضدة تتصدر المشهد في مقدمة المسرح ورأس تمثال للكولونيل على يمين المتلقي وبعض الستائر التي تشي بعالم العرض المسرحي الذي يغوص في الذكريات، مع وجود إطار لبناء هنجر يسلط الضوء على بنايات الفرق العسكرية وبرتكابلات تفرق بين المستويات المختلفة على أن تلعب المشاهد السينمائية التوثيقية أو التي تم تصويرها، وفي الملابس انحاز للمنطقي في ملابس الشخصيات وفق الفترة الزمنية التي قدمتها الأحداث وهي مسألة ضرورية لاستيعاب الشخصيات ووضعها في الإطار المناسب. وعلى جانب آخر اهتم «محمد هاشم» بشخصية الفتاة اليابانية التي ظهرت في زي تقليدي بسيط يعكس ثقتها بتاريخها واعتنائها بذاتها وبما يمكن أن يتصوره أحد عنها، وحتى في تكوينه للمنضدة يمكن للمتلقي أن يلاحظ أن ألوانها تتميز بصدى صورة الانفجار الذي أحدثته القنبلة التي ألقيت على هيروشيما، وحقيقة جاءت السينوغرافيا معتنى بمكوناتها وواعية تماما بدور الحدث في بيان النصر والهزيمة.
وعن الأداء التمثيلي حقيقة اعتنى معظم الممثلين بأدوارهم بالقدر الذي يسمح بتوطين أهمية القضية المطروحة وإن كانت هناك بعض اللحظات المنفلتة التي يغيب فيها التركيز بعض الشيء وظني أن تلك الهفوات البسيطة يمكن تداركها مع ليالي العرض المستمرة وأخص هنا «شريف صبحي» في دور الكولونيل الذي تحمل العبء الأكبر.
حقيقة، اجتهد كل الممثلين حسب أدوارهم بداية من محمد دياب ومعتز السويفي ونورهان أبو سريع ومحمد حسيب ونائل علي ومحمود الزيات كل في دوره وإن اختلفت مساحات أدوارهم وأهميتها داخل نسيج تيمات العمل، فقد لعب بعضهم أكثر من شخصية وقدم جهدا مضاعفا كي يبدو العرض في صورة طيبة اعتدناها مع المخرج.
لقد جاء العرض في الوقت الراهن ليبين لنا إحدى صور النصر والهزيمة عبر التاريخ القريب ويوضح الصورة الغائمة حول الدور الأمريكي في الحرب العالمية الثانية ويبين بشكل جلي كيف تقوم الدول المهزومة من جديد لتثبت للعالم قوة شعبها وقدرته على العودة من جديد، فما حدث مع اليابان كان يمكن أن يمسح اسمها تماما ولعقود كثيرة قادمة فما زال هناك أطفال يولدون مشوهين من جراء القنبلة المشئومة، ولكنها أمة أبت إلا أن تقوم وتثبت تفوقها وامتلاكها لعزيمة كبيرة وقدرة فائقة على تغيير العالم.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *