شكيب خوري… نسوي يقارع شوبنهاور

أحد رواد المسرح اللبناني، ورموز حقبة بيروت الذهبية يتصدّى في ««عذراً سيّدتي» (دار بيسان) للظلم الذي ألحقه الفيلسوف الألماني بالمرأة. فعلَ ذلك عبر استعادة تاريخ النسويّة، وأثرها في بناء المجتمعات، والحضارات، محاولاً الإحاطة بالشخصية الأنثوية في المسرح والرواية والنقد والشعر والفنون عامةً

 

رامي طويل

متسلّحاً بإرث إبداعي كبير تنوّع بين الرواية والشعر والقصّة والمسرح، يتقدّم الكاتب والمسرحي اللبناني شكيب خوري (1932) للرد على مقالة آرثر شوبنهاور (1788 ــ 1860) «في موضوع النساء» بعد ما يقارب 150 عاماً على كتابتها، انطلاقاً من تساؤل راوده «كيف يمكن لفيلسوف يملك هذا المقدار من الإدراك والبصيرة أن يغلّب مشاعره ونزواته وغرور الذكوريّة، فيطلق على المرأة، المرأة في المطلق، كلّ النعوت الرديئة، ويتعمّد تحقيرها كعدوّ يثأر من عدوّه؟».
يبدأ خوري دفاعه واسماً إيّاه بعنوان «عذراً سيّدتي تأخّر ردّي على شوبنهاور» (دار بيسان) ليستعيد تاريخ النسويّة، وأثرها في بناء المجتمعات، والحضارات، محاولاً الإحاطة بالشخصية الأنثوية عبر ما يشبه البانوراما التحليلية لعدد من الإبداعات الإنسانية في المسرح والرواية والنقد والشعر والفنون، حيث مثلت الأنثى موضوعها الأساسي منتصراً لها أمام ما يصفه لدى شوبنهاور بأنّه «انحياز مزمن لفرضية تاريخية تدّعي سذاجة المرأة ومحدوديّة طاقتها».
عبر نصوص ابداعيّة خالدة، يعود خوري لتسطير تاريخ الأنثى وآلية انحسار دورها كفرد فاعل في المجتمع منذ أنجز العقل البشري بغريزة التسلّط مجتمعه الذكوري، الذي تسبّب في الحروب والدمار، وتراجع دور المرأة ليقتصر على محاولتها استعادة بعض حقوقها، التي خسرتها منذ خرجت البشرية من المجتمعات الأموميّة. تبرز صرخة كلايتمنسترا في مسرحيّة «إفيجينيا في أوليس» ليوريبيدس: «أهي إرادتكم أيّها الإغريقيّون أن تبحروا إلى شواطئ فريجيا؟ فلنحتكم إلى القرعة ونرَ ابنة من يجب أن تذبح؟». تعود الأسئلة ذاتها بعد مئات السنين على لسان أرملة الفيلسوف الفرنسي كوندورسيه هذه المرة. تخاطب الأخيرة نابليون بعد أن يقول لها إنّه لا يحبّ أن تلح المرأة في السياسة، فتجيبه: «لك الحقّ أيّها الجنرال، ولكن من الطبيعيّ في بلد تُجتزُّ فيه رؤوس النساء أن يكون لهنّ الحقّ في أن يسألن عن السبب في ذلك».
يربط خوري في كتابه بين واقع المرأة عبر العصور، وفكرة العدالة والحرية التي نادت بها الأعمال المسرحيّة المنتصرة للفرد، خلافاً لأعمال عمد صانعوها إلى تكريس ثوابت المجتمع الذكوري. ثمّة روابط قويّة تجمع بين عنبرة سلام الكاتبة اللبنانية المعاصرة والمناضلة في الدفاع عن حقوق المرأة، والشاعرة الإيرانيّة فروغ فرخزاد التي ذخرت قصائدها بالموضوعات النسوية الملحّة وبين شخصيّات اسخيلوس، وسوفوكليس، وتشيخوف، وإبسن، ويوريبيدس الذي تصرخ شخصيّاته: «لتحلّ اللعنة على جميع هؤلاء الذين يبتهجون لرؤية المدينة في قبضة رجل واحد، أو تحت نير حفنة من الرّجال! أن يُدعى الإنسان حرّاً هو أثمن ما في الحياة، إن امتلك هذه الصّفة، حاز الكثير ولو كان لا يملك إلّا القليل».
يرى خوري في كتابه أنّ مأساة نساء العالم القديم تتناسل إلى الزمن الحديث وما زالت محكومة بالخرافات والأساطير، وتحتاج إلى أن تتطهّر من ذلك الإرث في زمن الحداثة والتكنولوجيا والحريّات. ومن هنا كان إسهابه في سرد مقاطع مطوّلة من مسرحيات هنريك إبسن الذي ناقش القضايا المحظورة، وربط الأحداث التاريخيّة الداعية إلى تحرير المرأة «حركة انطلقت في القرن التاسع عشر» بدعوته إلى الحريّة الشخصيّة والصراع بين طموحات الفرد والمجتمع ومؤسساته.
إنّ مغزى الصّراع هو ذكوري ـــ أنثوي يقوم على الميزات المعطاة للرجل أمام الحرمان والإذلال للمرأة. ومن هنا يكون لا بدّ للضعيف من أن يناور، يحتال، يكذب، يخون كي يستعيد خلسةً، أو جهاراً الشيء القليل من حقوقه الإنسانيّة والمدنيّة. يرى خوري هنا أنّ آرثر شوبنهاور لجأ إلى التعميم في ما يخص المرأة من دون البحث عن الأسباب، والتحليل. وإذ قال إنّ «النّساء قاصرات»، فقد ارتكب ما يمكن اعتباره الخطأ المميت بالنسبة إلى فيلسوف بحجمه «ما يستلزم بحثاً متعمّقاً في وضع شوبنهاور النفساني لمعرفة حقيقة خصامه مع النساء». وربّما يعود ذلك إلى نظرة شوبنهاور السيئة إلى والدته وطريقة عيشها بعد وفاة والده، ما جعله يختصر كلّ النّساء بصورتها لديه. بعد حوالي 150 عاماً، يتصدّى شكيب خوري للدفاع عن المرأة في وجه مقال شوبنهاور ويعتذر لها عن التأخّر في ذلك، مستعيداً وصف تشيخوف لها في مسرحيّة «بستان الكرز» التي يرى في عنوانها «عنواناً لأشجار ثمارها هشّة كما نساؤها. خطأ صغير في الطبيعة لحظة التكوين قد يؤثّر على رقّتها، نكهتها، مزاجها، لونها، كحال الثمار اللزجة، رانيافيسكايا سريعة العطب، المعطاء، الحنون، المحبّة، تعيش ساعاتها الأخيرة كما بستانها». إنّهما جمال الطبيعة الإنسانيّة وسوء التقدير اللذان سبّبا الصّراع بين الأجيال، بين القديم والحديث، بين الخضوع للموروث ومناقشته.

 

http://www.al-akhbar.com

 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *