«الحياة بدون رائحة» … في دهاليز النفس البشرية

لم يحدث أن استطاع مخرج شاب منذ فترة طويلة البحث بمثل هذا العمق في الطبيعة الإنسانية وماهيتها ومواضع تأججها وتشرذمها وسخطها ورضاها وتلاشيها وتقوقعها في المكان ذاته،

 

كما فعل عبد السميع عبدالله في عرض السرد المسرحي والرقص المعاصر «الحياة بدون رائحة» الذي قدمته مجموعة «بحارة للفنون» باستوديو المدينة في الإسكندرية.

يسأل العرض الذي أنتج بمنحة من المجلس الثقافي البريطاني، هل يتأثر من فقد حاسة الشم كمن يتأثر من فقد إحدى الحواس الأخرى؟ ويبحر العرض في أغوار النفس البشرية متوغلاً في دهاليزها، كاشفاً قوة تحملها وصرامتها في الحفاظ على قيمها واقتناعاتها، ومحاولاً فك شيفرة المكان والذات معاً، ليؤطر حالة من التجاوز المنطقي المترسب في نفس كل منا عندما يتعرض لأزمة كبرى أو لضغوط مستحيلة.

يتأثر عبد السميع بيرزي غروتوفسكي في رفضه المسرح الفني القائم على معارف إبداعية متباينة كالأدب والعمارة والأزياء، مولياً اهتماماً أكبر بالشخصيات وكيفية إدارته للممثلين. واستخدم المخرج ديكوراً بسيطاً جداً، وأزياء عادية، وموسيقى معبرة برع الفنانون في استغلالها حركياً لتجسيد مختلف الصراعات النفسية، وفي التحول من حالة إلى أخرى ومن شخصية إلى ثانية مختلفة فكرياً ونفسياً وبنائياً.

اللافت في العرض اعتماده على التشكيل الجسدي في الفراغ ومحاولة استخدام مكان غير تقليدي كبديل لخشبة المسرح التقليدية مع استخدام عناصر جديدة في الإضاءة المسرحية ما أعطى مزيجاً من التركيز والواقعية الصرفة المادية التي تطرح الحياة بوجوهها المتعددة.

وتدور أحداث العمل حول حياة أربعة أشخاص فقدوا حاسة الشم في حوادث مختلفة. ويتناول العرض رحلتهم في إعادة اكتشاف الشعور بالروائح، وأثناء هذه الرحلة يكتشفون فقدانهم الكثير من المشاعر تجاه الآخرين وتجاه الأماكن والصور.

من خلال لغة مسرحية محكمة يتباين إيقاعها ويتداخل، طبقاً لمقتضى النص، شكلت مشاهد المسرحية لوحات تشكيلية عفوية من الرقص المعاصر اعتمدت البناء التشكيلي للمشهد عن طريق أجساد الراقصين المتفاعلين مع الموسيقى. وتخلل ذلك مشاهد سردية وارتجالية عكست حالة الشخصيات الداخلية، وفقدانهم التواصل التدريجي الذي أصابهم بحالة من اللاانتماء إلى المكان والزمان والذات.

ويسير العرض عبر منحنيات ومنمنمات تفاصيل حياة الأبطال الأربعة، في إطار من الصراعات النفسية المحتدمة. ونجح المخرج في الخروج من معضلة التواصل مع الجمهور بحيث مثّل العرض تجربة تفاعلية ثرية بين صناع العمل والمتلقي. فقبل دخول المشاهدين تسلموا كمامات للأنوف، ليكتشف المشاهد في ما بعد أنه جزء من العرض، فهو يشارك أبطال العمل تقلباتهم النفسية. كما أن الممثلين يرشّون طوال العرض معطّر جو من أنواع وروائح مختلطة، تمتزج لتصنع عطراً جديداً قد لا يتقبله المتلقي فيحتمي بالكمامة. وهكذا، إلى جانب عنصرَي الصوت والصورة هناك عنصر ثالث وهو الرائحة التي شكلت إضافة مثيرة للعرض.

ويقول عبدالله: «أتت فكرة العمل من خلال مراقبتي كلاً من فاقدي البصر وفاقدي السمع، وتطورت في مناقشاتي مع فريق العمل والبحث عبر الإنترنت وسؤالي شخصيات فاقدة للشم، ومن هنا تحول العمل إلى بحث داخل النفس البشرية في مجتمع تناقضيّ، فاكتملت الرؤية لدي بعد بحث مضن. وتناقشت مع مصمم الرقصات ألبرت ألفي لإيجاد معادل بصري يعبّر عن هذه الحالة ببساطة ومن دون تعقيد».

أخرج العرض وكتبه عبد السميع عبدالله، وقدّمه محمد هاشم ومحمد السيد ودينا إبراهيم ومحمد النجار، وساعد في الإخراج معتز محمود ومونيكا مجدي. و»بحارة للفنون» هي مبادرة فنية أنشأتها في العام 2008 مجموعة من الفنانين لتطوير الفنون الإدائية المختلفة.

 

الإسكندرية – سامر سليمان

http://alhayat.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *