الديكتاتور .. الملهم

قبل أسابيع فازت مسرحية “الديكتاتور” نص الكاتب والشاعر والناقد الراحل عصام محفوظ وإخراج لينا أبيض في إطار تقنيات المسرح الفقير الذي أسسه بورزي جروتوفسكي، بجائزة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، كأفضل عرض مسرحي عربي لعام 2013، بعد تفوقها على تسعة عروض مسرحية عربية في المنافسة الرسمية لمهرجان المسرح العربي في دورته الخامسة التي انعقدت في العاصمة القطرية الدوحة في الفترة ما بين 10 و15 يناير من العام الحالي.

في المسرح والسينما

قدّمت المسرحية بذات العنوان، العام الماضي لمصلحة فرقة المسرح الحديث بمصر، بتوقيع المخرج حسام الدين صلاح، برؤية حديثة عن نص الكاتب الفرنسي جول أرمان بعنوان “الجنرال”، وتدور أحداثها بعد تمصيرها حول صديقين كانا يمارسان العمل السياسي بروح ثورية حتى يشغل أحدهما منصب رئيس الجمهورية، فيما يتمتع الآخر بشعبية كبيرة وقدرة على تحريك الشارع والجماهير بخطبه النارية، فيعينه الرئيس المستبد رئيسا للوزراء، لينشأ فيما بعد الصراع الحتمي بين رجل السلطة ورجل الشعب، وتضيع الصداقة ومعها كل الروح المناهضة لأشكال الظلم والاستبداد، فيما قدّم الفنان المصري محمد صبحي، هذه الشخصية من خلال مسرحيته الشهيرة بعنوان “تخاريف” عن نص للينين الرملي.

وفي الإطار الفكري لمناقشة مفهوم الاستبداد السياسي، صدّرها لنا الكاتب والناقد السوري مؤخرا في شكل مسرحية حملت عنوان “ظل الديكتاتور”، عن منشورات الدار العلمية والتوزيع في القاهرة، بالتعاون مع دار الفرات، ويسلط موضوع المسرحية في خمسة فصول الضوء على شخصية الحاكم المستبد، كما تصور بطريقة هزلية ساخرة صراع الإرادات السياسية بين الحاكم وأبنائه من ناحية، وبين الحاكم وأعوانه وحاشيته من ناحية أخرى، مركزة في النهاية على أوجه الاستبداد السياسي، وآثاره المدمرة على حياة المجتمع والإنسان في كل زمان ومكان.

أما في الإمارات، فقد أطلعت هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في شهر مايو عام 2009 الجمهور على هذا النمط من الشخصيات، في شكل مسرحية شكسبيرية تظهر الصعود الميكافيللي للملك (ريتشارد الثالث)، وتدور أحداثها في بريطانيا في القرن الخامس عشر، وتصور تلك النزاعات الدموية على عرش المملكة، حتى وصل ريتشارد الثالث (1452 ـ 1485) بعد سلسلة من الاغتيالات والمكائد، دبّرها مع أعوانه، منها قتل إبن أخيه الصغير الذي كان وارثا شرعيا للحكم، وما إلى ذلك من تفاصيل تبرز السعي الديكتاتوري لبناء دولة العنف.

السينما هي الأخرى لم تفلت من عقال هذه الشخصية، التي قدّمتها في رؤى وأشكال عديدة، وبخاصة ما قدّمته السينما الأمريكية من أفلام ناقشت هذا الموضوع في إطار لم يخل من التلميحات. أما السينما العربية فقد قدمت هذه الشخصية عام 2009، بفيلم للمخرج إيهاب لمعي، عن سيناريو لخالد سرحان وميشيل نبيل، وقدّم موضوع الفيلم في إطار كوميدي ساخر، حول رئيس مستبد في جمورية تدعة “بمبوزيا”، ويحمل الكثير من الإسقطات والانتقادات اللاذعة على قضية التوريث السياسي، واستغلال النفوذ، والفساد بأشكاله، وحول بعض الأوضاع السياسية التي تعاني منها دول العالم الثالث.

في المجال الفكري، فربما يكون كتاب “شخصية الديكتاتور في المسرح العالمي ودراسات أخرى” للكاتب والقاص العراقي حسب الله يحيى، والصادر حديثا عن دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة العراقية، في إطار الموسوعة الثقافية، من أفضل الكتب العربية التي ناقشت هذا الموضوع بحرفية وتوثيقية عالية ضمن دراسة نقدية تطبيقية معاصرة. وتضمن فهرس الكتاب مواضيع نقدية شتى حول الميثولوجيا والمسرح “جلجامش نموذجا”، الموجز في مسرح فيكتور هوجو، أبعاد مسرح بيتر بروك، إشغال الفراغ في لغة مسرحية عالمية، آرثر ميللر الساعة الامريكية دقت، الخاصية المنفردة في الخطاب المسرحي، المسرح العربي الحديث، كاسبار بين الحرية المفقودة واللغة الموحية، آفاق تطويع التراث العربي للمسرح، جواد الأسدي تقاسيم في تجربة مسرحية بارعة، بيكاسو مسرحيا، شخصية الديكتاتور في المسرح العالمي، حيث يرى الكاتب في هذا الباب أن هذه الشخصية تعددت في النصوص العالمية، وباتت تشكل ظاهرة مميزة وبارزة في الفن المسرحي، إلا أن هذه الشخصية وعلى الرغم من اتساع تأثيرها ومعالجة وجودها مسرحيا ظلت غامضة وغير مدروسة، وربما كان السبب في ذلك جسر الحرية الذي يحتاجه كل ناقد وباحث موضوعي منصف، فضلا عن هاجس مماثل للفنان المسرحي ـ مؤلفا ومخرجا وممثلا ـ وهو يجسد شخصية الديكتاتور.

يقول حسب الله يحيى في كتابه: “… ولما كان الديكتاتور وظيفة دستورية يمارسها من يختاره الشعب إليها ممارسة مؤقتة لحماية الدولة باسم السلامة العامة، وأن الديكتاتورية ذات الأصل الروماني تدل على حالة سياسية معينة، تصبح فيها جميع السلطات بيد شخص واحد، يمارس حسب مشيئته كما ورد في الموسوعة السياسية، من هنا نجد أن هذه الشخصية تنفرد عن سواها من الشخصيات البشرية في السلوك ونمط الحياة وطريقة التعبير عن نفسها، وفي نظرتها إلى نفسها وإلى العالم المحيط بها، ومن شأنها أن تلحق الأذى بالجنس البشري، وتغير معالم الأشياء والطبيعة والتاريخ وتزييف الحقائق” (الكتاب ص 121).

أقوال وأفعال

يستند المؤلف في تفسير هذه الشخصية المعقدة والغريبة الأطوار إلى توثيقات من جملة مسرحيات وروايات عالمية تبين طريقة التفكير الشيطاني الذي كان يحرك بعض هؤلاء، كأن يقول: “هناك عبارة وردت في الجزء الثاني من رواية بوليسيس، لجيمس جويس، تقول فيها إحدى الشخصيات: “دع وطني يموت في سبيلي” كما أن هناك مقولة لكرومويل ـ جلاد إنجلترا وقائد حروبها ـ جاء فيها: “أعرف أن تسعة من عشرة يكرهونني، ولكن الشخص العاشر والوحيد بيده السلاح”، كما كان كاليجولا الإمبراطور الروماني يقول: “عندما لا أقتل اشعر بالوحدة، إنني لا أكون بخير إلا بين ضحاياي”. ويعترف نيرون، الذي قام بحرق روما وهو الشاعر الموسيقي والديكتاتور في الوقت نفسه: “أعرف أن الشعب يكرهني، ولكن يكفي أنه يرهبني ويخاف مني”. وكان كاليجولا قد إعتمد مثل هذا الرأي من قبل”. (الكتاب ص 122).

ثم يستعرض الكاتب نماذج مختارة من الأعمال المسرحية التي تبرز حطام هذه الشخصية، مثل مسرحية “الحياة المديدة للملك أوزوالد” للكاتب اليوغسلافي فيلمر لوكيتس، بترجمة للدكتور جمال الدين السيد، عام 1988، حيث يتبين للقارئ مدى عشق شخصية أوزوالد للحرب: “يا جلالة الملك بمجرد أن تشعر بملل كبير اخترع حربا جديدة”. وفي مسرحية “الحفلة التنكرية”، للكاتب الايطالي ألبرتو مورافيا (1907 ـ 1990) والتي ترجمها المخرج الراحل سعد أردش عام 1987، نتعرف على شخصية الديكتاتور (تيروزو) والذي تصوره نفسه الأوحد والأمثل حتى في العلاقات العاطفية، متناسيا عاهته التي تحرمه في الأقل من سمة الكمال والجمال، وقد زيّن له أتباعه وزبانيته ما كان يرغب به، محتفظين بمراكزهم وكراسيهم وثرواتهم. هنا شخصية ديكتاتورية ترى نفسها الأنموذج الأمثل المتفرد في كل شيء، في حين هو في حقيقة الأمر الأنموذج الأكثر رداءة وتسلطا وقسوة حتى على مستوى العاطفة والجمال والألفة مع الآخرين.

نراجع مع المؤلف أسوأ ما في شخصية القائد الروماني كاليجولا، رمز الشر والطغيان التي جاءت في أكثر من مسرحية، والذي كان يستدعي العلماء والمفكرين من معارضيه، ويطلب اليهم تدوين خلاصة أفكارهم على لوح أسود، ثم يلزمهم بمسح ما كتبوه بألسنتهم، وقد استدعت غرابة هذه الشخصية الكاتب الفرنسي ألبير كامو، فكتب عنها مسرحية “كاليجولا”، بترجمة لعلي عطية رزق عام 1966، حيث يبدو هذا الديكتاتور يتمتع بحرية مطلقة في مصادرة حرية الرأي والتعبير والقضاء على المعارضين بشتى الطرق، ولنستمع الى كاليجولا وهو يقول: “أنا محتاج الى القمر، الى السعادة، الى الخلود. أريد أن أخلط السماء بالبحر، والقبح والجمال، وأن أجعل الضحك ينبعث من الآلام”.

أحمد علي البحيري

http://www.alittihad.ae

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *