فاغنر «يُـمسرح» التزمّت في مهرجان البستان اللبناني

صوت يصدح باللهجة اللبنانية، يُذكّر بالتسلّط المعلَن في مسرحية فيروز «ناطورة المفاتيح»، قائلاً: «نحن الحاكم العادل فريدريك، ساءنا الفجور والانحلال في مدينتنا…»، ثم يكمل الصوتُ، مُعلناً قرار حاكم مدينة باليرمو فرض حظر على الحب، حتى لو كان زواجاً، ومنع الترفيه الجسدي المنتشر في تلك المدينة وكرنفالها.

 

 

ذكّر الصوت اللبناني الجبلي المُفخّم، بالحاكم الذي حظر على الشعب أن يتمتع بجنى محاصيله وأشغاله في «ناطورة المفاتيح»، المسرحية الرحبانية التي يفرّ الشعب فيها تاركاً فتاة لتصبح هي «الشعب-الفرد»، ولتواجه الحاكم إلى أن ترغمه على التغيير. وفي المسرحية الأوبرالية «حظر على الحب» للموسيقي الشهير ريتشارد فاغنر، يتمثّل رفض الشعب القرارَ المتسلط على الجسد الإنساني ورغباته ومتعه، بامرأة هي إيزابيلا: الراهبة الجميلة التي يرمي القرار أخاها الوسيم كلاوديو إلى فم الموت بدعوى أنه يحبّ خطيبته جوليا.

وعلى غرار شخصية «زاد الخير» التي أدّتها فيروز، يفرض إفراطُ التسلطِ التمردَ حتى من الأكثر طاعة: البائعة البسيطة «زاد الخير»، التي أدّتها فيروز في «ناطورة المفاتيح»، والراهبة إيزابيلا والزوجة المخلصة مريانا، التي تستدرجها إيزابيلا للمشاركة في الخلاص في دهاء نسوي دافئ، حيث تتفق الزوجة على الحلول مكان الراهبة في لقاء يفترض أن يكون ملتهباً، بعد أن قايض الحاكم إيزابيلا بأن يكون جسدها ثمناً لخلاص أخيها. لكن الحاكم يسدر في غيّه، فينكث بوعده قبيل اللقاء بهنيهة، ويتفتّق الذكاء الأنثوي عن سلاح أشد دهاءً: تستدرج مريانا زوجها الحاكم للاستمتاع بشهوة الجسد، وتُحرّض إيزابيلا الشعب على «ضبط» الحاكم متلبّساً بتهمة الاستمتاع بالحب والجنس مع زوجته، وهو ما حظره في إعلانه المتسلّط. ويتورّط الحاكم في تسلّطه الصَّلِف إلى حدّ قبول تطبيق قانونه الجائر عليه أيضاً، لكن الشعب يعتبر فِعلَة الحاكم كافية لإسقاط إعلانه الجائر، ويعفّ عن قتل الحاكم فيبقى في حكمه، بعد أن يغيّر موقفه من الشعب، وهو حلٌّ شبيه بما تصل إليه مسرحية «ناطورة المفاتيح» أيضاً!

أزيز مخرز كهربائي!

ربما يصعب ألاّ يُذكّر التسلّط في مسرحية فاغنر بالإعلان الدستوري المُدوّي الشهرة الذي أصدره الرئيس المصري محمد مرسي في أواخر السنة المنصرمة، الذي ذكّر كثراً بإعلان شهير أصدره الحاكم بأمر الله الفاطمي ومنع فيه الشعب المصري من تناول الملوخية. واستطراداً في هذا «الإسقاط» المُمازِح، يظهر في القضاء أولُ انفراطٍ لتسلطّ الإعلان، عبر استسلام القاضي بيرغالي لشهوةٍ تجرفه صوب اللعوب دورسيلا، أما في إعلان مُرسي، فانحلّت أولى خيوط التسلّط في مساحة القضاء: من المحكمة الدستورية إلى أزمة النائب العام. وعلى رغم إعلان الحاكم بأمر الله، لم يتوقّف المصريون عن أكل الملوخية، بل جعلوها من محطات شغفهم بالحياة ومتعها، فصنعوا منها أنواعاً متكاثرة اللذة، كما لم يتوقّف شعب باليرمو في كوميديا فاغنر، عن الشغف بالحب والجسد والمتعة، بل رفعها كلها فوق قوة السلطة.

في مهرجان «البستان» 2013، عُرِضَت مسرحية «حظر على الحب» التي كتبها فاغنر في العام 1836 عندما كان في عشرينياته، اقتباساً عن مسرحية ويليام شكسبير الكوميدية «ضربة مقابل ضربة».

ارتصف عازفو الأوركسترا في فرقة «هليكون» الأوبرالية عند طرف منصة المسرح، في صفّين متقابلين يعبّران عن المسار الموسيقي لهذه الأوبرا الكوميدية، وارتصّ عازفو آلات وترية ضمّت الكمان والـ «تشيللو» والكونترباص في مواجهة عازفي مزامير الخشب والنحاس، كالـ «أوب آو بوا» والـ «فلوت» والـ«ترومبيت» و«القرن الفرنسي» والـ «ساكسهورن»، إضافة الى صنوج الأصابع من نوع الـ «كاستنت» الإسبانية» والطبول المتنوّعة وصنجات النحاس وآلة النقر الخشبية «زايلوفون»، وآلات الرنين كالـ «تراينغل والـ «كاليبو».

استُهلت الأوبرا بأداء عاصف بصرياً وموسيقياً و… «صوتياً!»، إذ عمد قائد الأوركسترا فلاديمير بونكين إلى ارتداء قفّازات سميكة خشِنَة تستعمل في أعمال البناء، وحمل مخرزاً كهربائياً، مستبِقاً العزف بأداء لأزيز هذا المخرز! ربما قُصد هذا الخروج عن المألوف للتمهيد لمطلع الأوبرا العاصف موسيقياً، والذي أطلقت فيه الآلات جميعاً، وعلى المستوى العالي السريع، مع بروز أصوات المزامير والنقر الخشبي والرنين النحاسي، وكأنما فرقُ فرسان تجتاح سهلاً فسيحاً.

التزمّت ممسخراً بقبلة مُعلنة

بالترافق مع هذا العصف الموسيقى المُدوّي، الحامل بصمات مُبكّرة من التفلّت العبقري لفاغنر وخروجه المُتحدّي على المألوف، تدفقت على المسرح أجساد كرنفالية، وأدّت فرقة الأوبرا الروسية «هليكون» (موقعها الإلكتروني «هيلكون.آر يو» helikon.ru) مسرحية فاغنر -التي ترجع الى الحقبة الرومانسية الثورية- بأسلوب الرقص المُعاصر، الذي أرساه فنانون كبار كالأميركي ميرس كاننغهام. وبأسلوب مابعد حداثي، ارتدى المؤدّون أثواباً معاصرة ومتنوّعة ومستقاة من الحياة اليومية، بالابتعاد من تخشّب ترسيمة الزي المُنمّط الرسمي، وبالأحرى من أثواب الترفيه الجسدي المُعاصر (إناثاً وذكوراً)، كتلك التي تُشاهد في الملاهي الليلية وكازينوات مثل «مولان روج» وغيره، وكذلك سارت حركة الأجساد في استقلال نسبي عن الموسيقى، مؤدّية حركات تنتمي إلى اللحظة الراهنة، وهي لحظة أداء العمل الفني واستعادته فعلياً، ما ينسجم أيضاً مع المُعطى المابعد حداثي في الأداء. واستطراداً، تكاثر ظهور الكاميرا والخليوي وميكروفون التلفزة، لأداء معنى السلطة في لحظتها الحاضرة.

وفي كوميديا «حظر على الحب»، استند المؤلّف والمُلحّن (فاغنر) إلى «ليت موتيف»، بمعنى مرافقة ترنيم موسيقي مُعيّن كلَّ شخصية رئيسية فيها. ويعبِّر الـ «ليت موتيف» عن النوازع العميقة لهذه الشخصية، فكأنه يعبر بالنغم عن اللاوعي في الشخصية، وهو أمر ظهر بالكلمات في تأليف شكسبير مسرحية «ضربة مقابل ضربة» أيضاً.

في هذه المسرحية، التي وظّف فاغنر جرأتها لتهشيم التزّمت، يصعب تجاهل التحدي، ففي تلاعب واضِح، تحدى تفسيرات متشدّدة دينياً تجعل الزواج أداة للتكاثر فتستنكر متعة الجسد فيه. وما زال النقاش مع هذا التشدّد حاضراً، ورفع فاغنر التحدي بسخرية هائلة، إذ تنتهي المسرحية بإحجام إيزابيلا عن العودة الى الدير، مفضّلة زواجها مع لوتشيو، صديق أخيها، الذي يتوِّج زواجه بقبلة مُعلنة.

 

بيروت – أحمد مغربي

http://alhayat.com

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *