كتاب ‘ما هو المسرح؟’ لكريستيان بيت وكريستوف تريو: مغادرة سرير النظريات غير المريح!

من دون أي سوء فهم، إن هذا الكتاب الضخم، لمؤلفيه: كريستيان بيت، وكريستوف تريو، دار نشر غاليمار، باريس، والذي يتألف من 1050 صفحة، ليس ببرنامج جامعي أكاديمي، ولا هو بموسوعة مسرحية، وإنما هو كتاب يأخذ مؤلفاه وقتهما، للإجابة، بجدية مطلوبة، على السؤال الذي يبدو ساذجا بشكل مخادع، ابتداء من العنوان: ما هو المسرح ؟

إن المقدمة تتبع عرضا لفصل بعدة أصوات (المؤلفين، الرجال، النساء، والمسرح)،’ويتألف من أربعين صفحة تقريبا، بعنوان (وجهات نظر). إن هذا الفصل التمهيدي يعتبرمهما جدا، فهو يحدد النغمة التي تعلن عن المناطق السبعة التي سوف يتشكل منها الكتاب: (ما الذي يحدث في المسرح)، (تطور الأماكن والفضاءات)،(ما هي وظيفة الفضاء المسرحي في المسرح)، (الوقت، الإيقاع، ودرجة السرعة)، (الجسد، لعب الممثل، والوهم)، ( قارئ النصوص المسرحية)، (الإخراج: إرث وأسئلة). وإن هذا الأخير وحده يتألف من 300 صفحة. إذا كان الفصل التمهيدي يشعل فتيل مختلف المشاكل التي سيتم تناولها وترتفع نبرتها شيئا فشيئا فيما بعد، فإنه يبحر أيضا في صلب موضوع: أن المسرح هو تجربة شخصية بشكل مكثف، وإنه أولا وقل كل شيء، مسألة مشاهد.
إن المكونات الدراماتورجيكية (المكان، الزمان، النص، والإخراج) قد وضعت بطريقة تربوية واضحة وبارزة، وكما في كثير من الأحيان، حسب الأقتضاء، بمساعدة التعريفات والنظريات المعروفة جدا (أرسطو، بريشت، فينتروفيوس، أرتو). وإن مساراته الملحوظة، تؤدي إلى إضاءة شروحات وتفسيرات، هي دائما مدعومة بذخيرة من الأمثلة العالمية: أداموف إلى جانب رأسين، وجنبا إلى جنب مع شكسبير، يوربيديس، هاينر ملر، كلوديل، ماريفو، بيراندلو، بيكت، على سبيل المثال، لا الحصر، وكيفية تحديثهم، ووضعهم في سياقات من خلال إخراج أو عدة إخراجات هامة ومميزة. إنه يطرح أسئلة جديدة، ويكشف عن متناقضات، بعيدا عن الصور النمطية، والمفاهيم الخاطئة. وإن التطورات التي يتطرق إليها منهجيا، وحججها دامغة، وتصور الاعمال الجديدة بشكل فعال. إن الفن المسرحي يغذي هنا كل ما هو جديد ومذهل من أفكار.
إن الجزء الذي يتعلق بالإخراج، مكتوب بطريقة غاية في الحرفية، ولا يترك اي شيء في الظل. كما أنه يتناول العلاقة المشتركة بين النص والعرض، أخذا بعين الاعتبار تجربة المشاهد المثيرة للجدل والتي هي بلا حدود، ودور المخرج الذي تطور بشكل واسع وملحوظ في القرن العشرين. ويتناول تجارب كل من: بيتر بروك، باتريس شيرو، انتوان فيتيس، جورجيو شتيلر، كلاوس مايكل غروبر، ماتياس لانكوف، تايدوس كانتور، هذا بالاضافة إلى مخرجين آخرين، أتى ذكرهم أيضا لدعم انعكاسات وأفكار قوية، لا يمكن فصلها عن وجهة نظر المتفرج الذي يسائل بدوره الإخراج بطريقة حديثة. إن المخرج (لم يعد يبني خطبا ولا مواد جمالية موحدة، وإنما ينفذ مسرحة، بالاعتماد على اللعب الديناميكي للمعاني، التي يكون فيها المتفرج المتلقي النشيط والصائغ والمستنطق الحقيقي). (ص. 736)
إن تأريخ المسرح بكليته يُستحضر تقريبا في هذا الكتاب، الذي يعيد ببعد نظر زيارة الكثير من المفردات، والمصطلحات، والمفاهيم المسرحية التي كنا نظن معرفته. و تستعير الزوايا المنهجية فيه من علم الظواهر، والسيميائية، في نهج واسع النطاق، ومنير دائما، وأبدا بشكل منهجي. إن هذا الكتاب لا يغلق أبواب النقاش بل يتركها مشرعة، وإن خيوط التفكير فيه تكمل بعضها البعض، تتواصل، تعيد الاتصال، وتطفح إلى السطح من جديد من أجل خدمة أغراض أخرى، وتعمل على إدخال ترشيحات منهجية أخرى. إن هذه الدراسة الضخمة والكبيرة في مفاهيمها، تتغذى من وعلى جوهر البحوث المبتكرة الأخيرة، وتقدم العديد من الاطروحات المبنية على شرف الوهم، والميتا مسرح، اللذان هما المبدآن الرئيسان اللذان ينظمان التجربة المسرحية للمشاهد، من جهة، واللذان يتحكمان في تفسير علم المسرح، من جهة أخرى.
إن كتاب (ما هو المسرح ؟) ينسج الأسئلة الأكثر تحديا، ويزخر أيضا بالمعلومات الدقيقة، حول كيفية قول: (يسار ويمين المسرح)، على سبيل المثال، في اللغة الإنكليزية، وعلى الأزياء، وعمل الجسد، والإضاءة، والإكسسوارات، والمكياج، وعلى أدوات تفسيرية قيمة كثيرة ودقيقة، قد اهملت، لا تزال تحمل قوة تماسكها الكامل. لا جفاف في هذه الدراسة المليئة بمعارفها، ومدياتها، وتحكمها بمكوناتها التي لا تعبر إلا عن الحماس الصريح والجريء تقريبا لمؤلفيها، لأنها ترتكز من البداية حتى النهاية، على حب المسرح. في الواقع، والشيء الجدير بالذكر، أن المؤلفين يحميان القارئ من (خطر كل تفسير) (ص391) بمنحه الشرح اللازم الذي يغير ويقلل مخاوفه. إن كل من (كريستيان بيت وكريستوف تريو)، يبقى سيد تجربته المسرحية الخاصة ، وليس على استعداد للتفكير نظريا، بما في ذلك، بالنص والعرض: (وإذا كان هناك، في كثير من الأحيان، تكامل بين النص والعرض، والقارئ، والمشاهد، فإننا نصر هنا،على حقيقة أن هذا الإفتراض التكاملي ليس بشيء بسيط، ولا حتى في بعض الأحيان ضروري للغاية). (ص 538) وهذا ما يسمح بقراءة غير معقدة، بطريقة ما، للنص المسرحي. إن الكتاب يرى في متعة المفترج الأساس المنطقي للتجربة المسرحية: (إنه فن الوعي الأسمى، وهو أيضا المتعة اللاشعورية، وعلى الفور، والسعادة التي لا يمكن تفسيرها، ولا الشكوى منها). (ص 529) إذن، إن المتعة موجودة في المسرح، وتشجع الجمهور على عدم ابداء الاستياء من، ما هو المسرح ؟ إنه يمنح اللذة والمتعة ويقدمهما بطرق جديدة ومبتكرة. إن المسرح يعبئ القلب، الجسد، والعقل، بكل ما قد نُسيّ، في محيط المنشورات التي، أجبرت الدراسات المسرحية، في السنوات الخمسين الأخيرة، على التمدد فوق أسرة النظريات غير المريحة. وبإختصار شديد، إن المسرح الكبير، بالنسبة لـ(كريستيان بيت وكريستوف تريو) يجب أن يخصنا بشكل كامل، من خلال تطرقه لنا، وتحويلنا وملئنا، وجعلنا نفكر. ومن الجدير بالذكر، يوجد مقطع في هذا الكتاب يحمل عنوان: (متعة الجمهور). (ص 368)
الغريب في الأمر، إن الكتاب، على الرغم من ضخامتة وعدد صفحاته الكثيرة، خال من التكرار، إلا إذا استثنينا الاستخدام المفرط لصفة (المَسامية’poreux’). بلا شك أن مفهوم (المسامية) يعود مرارا وتكرارا، ليذكرنا بأن المسرح هو فن، وإنه مكان للتبادل الحميمي، وهو الرابطة المشتركة (صلة اجتماعية وسياسية)، وإنه يدمج القلب، والجسد والروح، دون استثناء، ومن دون حدود. واخيرا، إن كتاب (ما هو المسرح ؟) بقدر ما هو واضح ومفهوم، فهو مُتَطَلِّب، إنه واضح في تحليله وتركيبه، ويقدم للقارئ الخبير سعادة لا توصف. إنه غني ومطَمئِن. وصحيح أنه ضخم الحجم، ولكنه ليس بثقيل، لأنه مستوحى من حب المسرح.

 

باريس ـ من محمد سيف:

http://www.alquds.co.uk/

 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *