حركة «أوبيريو» الروسية كما يقدمها عبد القادر الجنابي

هل يعرف القراء العرب الحركة الطليعية الروسية «أوبيريو»؟ من المرجّح أن يكون النفي هو صيغة الإجابة عن هذا السؤال. وهذا ما دفع الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي

 

(مقيم في فرنسا) إلى وضع كتابٍ مُثير للانتباه حول هذه الحركة المجيدة، صدر حديثاً عن دار «الغاوون». ويتضمّن في قسمه الأول تقديماً مفصّلاً لأهدافها وأفكارها وأبرز وجوهها، وفي قسمه الثاني نماذج عن كتابات رائدَيها دانييل خارمْس وألكسندر فيدنسكي، مترجمة إلى اللغة العربية للمرّة الأولى.

وخارمْس الذي وُلد عام ١٩٠٥ في سان بطرسبورغ هو مسرحي وشاعر وناثر وكاتب قصص للأطفال، شارك في تجمّعات أدبية جديدة ونشط في ميدان المسرح قبل أن يؤسّس، هو ورفاقه (فيدنسكي، نيكولاي زابولوتسكي، ليونيد ليبانوفسكي، ياكوف دروسكين، قسطنطين فاغينوف، نيكولاي اولينيكوف وايغور باختيريف) مجموعة داخل اتحاد الأدباء الروس، اسمها «اتحاد الفن الحقيقي». ومختصر هذا الاسم بالروسي «أوبيري» (Oberi)، إلا أن خارمس أضاف الواو (u) عليه فجعل حركتهم في مأمن من اللاحقة ism (ياء النسبة) الملعونة بها التيارات الطليعية والتي بسببها يتحول النشاط الحرّ إلى عقيدة.

الإبداع الكوني

أمّا هدف هذه المجموعة، التي تُعتبر آخِر شرارة طليعية شهدها المجتمع الروسي، فهو «تحويل الحياة الخاصة إلى حقيقة فنية، وتصوير العالم على نحو يُمَوضعه بوضوح». هدفٌ يتجلى في بيانها الأول والأخير الذي وزّعه أعضاؤها في أول أمسية أقاموها في بداية عام 1928 ونقرأ فيه: «نحن، الأوبيريويين، نتعاطى ممارسة الفن بكل نزاهة. نحن شعراء إدراكٍ جديدٍ للعالم ولفنٍ جديد. لسنا مبدعي لغة شعرية جديدة فحسب بل، أيضاً، مؤسسو شعور بالحياة والأشياء المأهولة بها. إرادتنا في الإبداع كونية: فهي تتعاطى مختلف الأشكال الفنية وتقتحم الحياة ماسكة بكل تلابيبها. والعالَم، المتسخ بلغات حشد من الأغبياء الغارقين في مستنقع «الانفعالات» و«العواطف»، ها هو يولد من جديد بكلّ صفاء أشكاله الملموسة والباسلة… إننا العدو الأول لأولئك الذين يخصون الكلمة ويصنعون منها سِقطاً عقيماً لا قيمة له. في إبداعنا، نحن نوسع مؤدّى الشيء والكلمة، لكننا لا ندمره (المؤدى) بأي حال من الأحوال. فالشيء الملموس ما إن يتخلص من القشور الأدبية والمبتذلة، حتى يصبح مُلك الفن».

وهكذا، يقول الجنابي أنّ «أوبيريو» دخلت في معركة واضحة مع سياق المعنى المعطى الذي أصبح «كليشه» أدبية مميتة. وتطلب الأمر أصالة شعريّة عميقة تدرك ضرورة «كنس كل طرق التعبير القديمة والتخلص من قاذورات أدب الماضي المنخور».

لم تقتصر ثورة الأوبيريويين على الشعر بل طاولت المسرح والسينما، فشنّت الجرائد الموالية للسلطة نقداً عنيفاً ضدهم واصفة أعمالهم بـ «الزعرنة الأدبية»، مما جعلهم، في نظر مثقفي الستالينية الصاعدة، «أعداء طبقيين»، فأُلقي القبض على خارمْس وفيدنسكي عام ١٩٣١، وأرسلا إلى معسكر اعتقال، ثم خُفّفَ الحكم عليهما إلى النفي الداخلي عبر منعهما من العيش في مدن كبيرة.

وبعد عودتهما إلى لينينغراد، لم يبقَ أمام حركة «أوبيريو» سوى النشاط داخل حلقة مغلقة كانت تجتمع في بيت الفيلسوف ليونيد ليبافسكي أو في شقة خارمس وتتناقش فلسفياً وجمالياً حول مواضيع النص/ الكاتب، الزمن / اللغة، الواقع والتخيّل، والمعنى وانعدامه… نقاشاتٌ كانت نتيجتها نسْف الأطر الثابتة للسرد، ولمفهوم النص ذاته، وتقويض المفهوم الشائع بأن «المؤلف هو مركز النصِّ المُوحَّد»، والتشكيك بصِحَّة أي مغامرة سردية مبنية على الفهم التقليدي للزمن.

ولإظهار الثراء الكبير لهذه الحركة، يشير الجنابي إلى أنّها «كانت تحمل البذور نفسها التي عُرفَت بها الاتجاهات الأدبية الطليعية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، كمسرح العبث ومسرح القسوة وموجة الرواية الفرنسية الجديدة والقصة القصيرة جداً»، كما يبيّن تقاطُب مغامرتها الشعرية والتجديدات الفنية لرسّامي سان بطرسبورغ، خصوصاً تجديدات ماليفييتش وفينيلوف.

وحول كتابات خارمْس، يقول الجنابي معتمداً على الباحث الفرنسي جاكار إن خارمْس استخدم أوزان الشعر الحر واللعب على القافية لفتح الكلمات على نفسها، كما اتخذ السرد طريقة لتجريد الجملة البسيطة من أية غرضية حِكَميّة، بحيث لا يعود للسرد أية وظيفة مفهومية وإنما فقط وظيفة بنيوية. فسردياته فيها الحد الأدنى من الكلمات، تبدو وكأنها استخلاص مكثف لعدة أجناس أدبية الحكايات الخرافية، الأمثولة، قصيدة النثر، القص البرقي، المونولوغ، المحاورة…

أما فلسفته «فتقوم على أن العالم هو مجموعة تأثيرات بلا قضية، يتصادم واحدها بالآخر. ومن هنا يولد الإحساس بالعبث. إن مأساة الإنسان تكمن في عدم قدرته على فهم العالم إلا على نحو متشظ، والرابط الذي يوحده بما يحيط به يبدو له منكسراً واعتباطياً».

وفي هذا السياق، يشير الجنابي إلى أنه «غالباً ما يطلق مصطلح العبث Absurd أو اللامعنى Nonsense على حركة «أوبيريو»، بينما الكلمة الروسية التي استخدمها أعضاؤها كصفة لأعمالهم هي (bez smysla) وتعني حرفياً «انعدام المعنى». وهنا فرق دقيق: هو أن الأوبيريويين كانوا يجعلون من «انعدام المعنى» مكان استقصاء شعري لما وراء لغة العقل، وليس استخدام اللامعنى كضد للمعنى، كما هو شائع. فالنزول في نهر انعدام المعنى له غاية واحدة ألا وهي اكتشاف معنى آخر متحرر من الروابط العرضية والمنطقية والعقلانية بين المعنى والكلمة».

وبالتالي، فإن «العبثية التي تتسم بها كتابات خارمْس، مثلاً، تختلف جوهرياً عن أدب العبث الذي تجلى بعد الحرب العالمية الثانية على يد يونسكو وبيكيت. فمدرسة هؤلاء ناجمة عن الشعور باليأس ومتأثرة بالكافكوية بينما «عبث» خارمْس المتأثر بأدب لويس كارول، فضاءٌ مضاء لا مكان فيه للثنائيات التفاؤل/ اليأس؛ المعنى/ اللامعنى. وفضاءٌ مفتوح للتساؤل البهيج يسموا بالمُشاهد / القارئ إلى ما وراء ضفاف حياته المحددة بمعان مُلّقَنة».

وكذلك الأمر بالنسبة إلى فيدينسكي (مولود عام ١٩٠٤) الذي يمثّل الجانب الأكثر جذرية في حركة «أوبيريو». فمع أنه تأثر بشعر رائد المستقبلية الروسية فيليمير خليبنيكوف: «الكتابة المناضلة ضد المعنى»، إلا أنه نقل ثورة المستقبليين من التلاعب اللفظي والصوتي للكلمات إلى التلاعب في حقلها الدلالي. لهذا، نشعر عند قراءة قصائده برغبة عميقة في تسريح الكلمات وتخليصها من قيود المعنى المعطى.

ووفقاً للجنابي، «كانت لفيدنسكي طريقة معقدة في كتابة الشعر تختلف كلياً عن أسلوب خارمْس. إذ غالباً ما كان يناقض مضمون بيت بمضمون بيت آخر، وكأنه في نفي متواصل لما يقال، وأحياناً بتراكيب مفككة، تفككَ الواقع، ومـشظاة تشـظّي الفـكر نفـسه إزاء المـسـائـل الكبرى، كـمفـهوم الزمـن مـثـلاً الـذي كـان مـحـور كتاباته».

نماذج من نصوص خارمْس


كان هناك زحامٌ على الرصيف

كان هناك زحامٌ على رصيف نهرنا. كان سيبونوف، قائد الفوج المُعسكِر في منطقتنا، آخذاً في الغرق. كان يبتلع مياهاً كثيرة، ثم ينتفض من الماء إلى حد بطنه، ويطلق صرخات ويغطس ثانية في المياه. كان يجاهد بيديه بكلِّ قواه ومن كلِّ جانب صارخاً يطلب النجدة.

كان الزحامُ الواقف على الضفة ينظر بوجوم.

سيَغرق، قال كوزما / يقيناً، أكّدَ رجلٌ عَمرةٌ على رأسه. / وبالفعل انتهى الأمرُ بغرق القائد. / فأخذ الزحامُ بالتفرق.

الدفتر الأزرق الرقم 10

كان ثمّة رجلٌ ذو شَعر أصهب، لم تكن له عينان ولا أذنان، ولم يكن له شَعرٌ أيضاً. وسمّي بالرجل الأصهب على سبيل المجاز.

لم تكن له قدرةٌ على الكلام لأنّه لم يكن له فمٌ. ولم يكن له أنفٌ أيضاً.

لم تكن له ساقٌ ولا ذراع. ولم تكن له معِدةٌ، ولا ظهر، ولا عمود فقري، لم تكن له أيّ أحشاء. لا شيءَ ثمّة. بحيث بات من الصّعب أن نفهم عمّن نتكلّم. لذا، سيكون من الأفضل أن لا نتكلّم عنه بعد الآن.

لقاء

ذات يومٍ، التقى رجلٌ، في طريقه إلى العمل، برجلٍ آخرَ كان في طريقه إلى بيته بعد أنْ اشترى رغيفاً من الخبز البولندي. / هذا كلُّ ما في الأمر.

 

باريس – أنطوان جوكي

 

http://alhayat.com/

 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *