بخط اليد.. اكتشاف بريخت

لقد أخذ على برتولد بريخت (1898-1956) أنه أدلج المسرح. وأنه قد ذهب به بعيدا حتى أفقده جمالياته ونبضه وإحساسه. ونتذكر ما ذهب إليه المسرحي المبدع عز الدين

 

المدني عندما أعلن صراحة في كتابه (مسرح عربي منير) والمكون من جزأين تناول الجزء اﻷول النظريات والنقد، وشرّع في الثاني اﻷبواب مفتوحة على ذكرياته وهمومه المسرحية فكتب قائلا: ” وإذا ما خضع فن المسرح للإيدلوجيا فإنما ينحط ويتدهور حتما. وهذا ما حدث فعلا في البلاد الشيوعية واﻷنظمة النازية والفاشستية والفوضوية والرأسمالية… والجميع يعلمون أني ﻻ أحب مسرحيات براشت، وﻻ أحبّ ادعاءاته اﻷيديولوجية، وﻻ مكابرته الفكرية والتقنية، وﻻ حقائقه العلمية التي كذّبها الواقع أكثر من مرة”.

وجدﻻ أتفق أن اﻷيديولوجية ﻻ تقتل المسرح وحده، ولكنها تقتل الفن واﻹبداع، كما تسلخ الحرية من عناصرها الكامنة في أحشائها وخلاياها. ففنٍّ بلا حرية وإبداع لا يعول عليه. وبالنسبة إلى مصطلح الأيديولوجية يجري على الدوام إعادة قراءته كمفهوم تدافعت حوله الآراء وتضاربت حتى اختلفت واحتدمت مسارات معتنقيها. ومن نافل الكلام أنه متى ما بدأت اﻹيديولوجية بالتسرب إلى العمل الفني ذَبل جماله ومات فكره الحرّ. ولكن إمعانا في الطرح المعقول علينا إرجاع اﻷشياء إلى أماكنها لتظهر صحيحة وواضحة في المرآة. فبريخت الشاعر اﻷلماني المولود في أوغسبرغ أحد مقاطعات بافاريا له مع المؤسسة العسكرية النازية من المواقف العصيبة الشيء الكثير. فقد اختلطت السياسة بالفن، والفن بالسياسة إبان المد الشيوعي الناهض، وتضافر في مسيرته الحياتية والفنية العديد من العذابات والصدامات منذ طفولته وإلى خاتمة مشواره الإبداعي الطويل. وأخذت تتشكل شيئا فشيئا مواقفه الحادة والعبثية في مسرحياته الأولى من الحرب العالمية الأولى، ووضعته اختياراته في مواجهات نقدية مع نفسه ووجوده أولا، لاسيما بعد انتفاخ الرأسمالية ووحشيتها، ومع إبداعه ورسالته ثانيا.

وتبلور وعي بريخت بقدرة الفن على التغيير بعد اعتناقه ماركسية لينين وكان أداته إلى التغيير هي اكتشافه المسرح الملحمي. وفي مسرحياته (أوبرا ماهاجوني، وأوبرا الثلاث قروش، والأم شجاعة، وحياة غاليليو، ودائرة الطباشير القوقازية) تجلت أيديولوجية بريخت ومجموعة أفكاره التي أطلقها في جُّل مسرحياته المتأخرة وتصوراته تجاه علاقة الإنسان بالإنسان وبالعلم وبالمجتمع. وهو في هذا يتقاطع مع الذين كانوا قبله أو الذين جاؤوا من بعده وتأثروا بمدرسته واتجاهه وأسلوبه. فكل له فلسفته ونظرته إلى الكون والعالم.
وعلى خاطر التأثر ببرخت، فقد تأثر عدد كبير من المخرجين في العالم باتجاهه ومن أظهر هؤلاء سعدالله ونوس وإبراهيم جلال. وتصف الناقدة الدكتورة نهاد صليحة في كتابها (المسرح بين الفن والفكر) بريخت بأنه أهم مُنظِّر للمسرح والدراما منذ أرسطو. فتكتب وتقول: إن بريخت لم يكن مجرد فنان مجدد تجريبي في مجال المسرح، لقد كان بحق- كما كان يطلق على نفسه- فيلسوفا للمسرح، خلق نظرية فنية فكرية متكاملة تغطي جميع أوجه العرض المسرحي، نصّا وتمثيلا وديكورا وأغاني وموسيقى. ويؤكد الناقد الدكتور سعيد الناجي على أهمية تجربة بريشت والتأثر به في المغرب والمشرق العربي فذهب في كتابه (المسرح الملحمي والشرق قراءة جديدة لأصول المسرح الملحمي في ضوء الثقافة الشرقية) إلى القول: كان بريشت باحثا منقبا يختبر كل شيء، ولا يطلق النظرية على عواهنها، ويسجل ويدون، معتبرا أن فنا لا يبحث عن تغيير العالم لا يستحق الاهتمام، ونظريته ساهمت في إذكاء الوعي والحق الإنساني في الحرية والكرامة.
“القائل نعم والقائل لا” هو عنوان لأحد نصوص بريخت التعليمية الذائعة الصيت في تعليم فن الإقناع. ولسنا بصدد قراءة النص وتحليله، لكن عنوانه جرّني إلى ما يمكن أن يقترب من طفولة بريخت وأيام شبابه. لم يبقَ من بريخت اليوم إلاّ الاسم فقط، وفي كل مناسبة تأتي يُحتفل فيها بمرور مائة عام على اكتشافه يُعاد في الواقع النظر إلى هذا المؤسس الذي كان اكتشافه للملحمية نافذة لظهور أشكال متنوعة من المسرح منها المسرح الوثائقي. يذكر قاموس المسرح أن بريخت كتب مقالة وهو في المرحلة الثانوية ضد الحرب العالمية الأولى، وكان عمره آنذاك ست عشرة سنة. وكان عنوانها (الموت عذب وواجب في سبيل الوطن) وعلى ضوء ذلك المقال الذي كاد أن يتسبب في فصله، حدث التحول في مساراته. لقد تبدلت وضعيته عبر مقال كتبه كان نقطة تحول في حياته كلها. والناظر إلى المحطات التي عبرها والبلاد التي زارها والأحذية التي أبدلها يُدرك قوة نقطة التحول تلك وأثرها في إبداعه كله. ومن الخطوط العريضة في رحلته يمكن للناظر التوقف عند فترة التحاقه ممرضا في الجيش، وسفره إلى ميونخ لدراسة الطب وعدوله عن تلك الدراسة إنصاتا لصوت الممثل بداخله، ثم خوضه لتجربة النفي الإيجابية ما بين 1933-1948 حيث ظل هاربا فارًا متنقلا ما بين سويسرا والدانمارك وفنلندة والولايات المتحدة الأمريكية. لقد أبدع برتولد بريخت مسرحياته في المنفى وإلى جواره رفيقة دربه زوجته الممثلة هيلين فايغل.
فالمنفى اكتشاف.
والمنفى اكتشاف…
“سيري ببطء، يا حياة، لكي أَراك
بِكامل النقْصَان حولي. كم نسيتكِ في
خضمٌكِ باحثا عنٌي وعنكِ. وكلَّما أدركت
سرٌا منك قلت بقسوة: ما أَجهلَكْ!
قل للغياب: نَقَصْتَني
وأَنا حضرت… لأكملكْ

 

آمنة الربيع

http://main.omandaily.om

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *