مفجر الرغبات الملتهبة في المسرح الأميركي

قرأنا قبل سنوات ان الكاتب المسرحي الاميركي الكبير تينيسي ويليامز قد تلاشى من عناوين المسارح، والمخرجين، (شأنه شأن اونيل)، وانه انتمى الى عصر طويت

 

 

 

صفحاته، والى زمن تجدد بين الاربعينات والخمسينات والستينات. فزمن آخر للمسرح. وزمن آخر للمخرجين. وآخر للرؤى المتجددة. بمعنى آخر كأن وقت الكاتب المسرحي قد افل. (وهذا صحيح!) وتربع المخرج على عرش “الكلمات” وتأويلاتها، ومناخاتها واداءاتها. اكثر: درج مفهوم “الفنان الشامل”، او الفنان المعملي، الذي يفترض بالكاتب ان يكون مارس او شارك في العمل المسرحي من الداخل.
ونظن ان كثيرين من الكتاب الكبار من اوروبا والاميركيتين، صنفوا “ادباء”، او “خارجين” على اصول العمل المسرحي. فالمخرج هو الكاتب. والسينوغرافي. ومصمم الاضاءة ومشغل الممثل. اي ان النص صار مجرد وسيلة “زمنية” تختبر في العرض ثم ترمى. وهنا نذكر كتاباً كباراً أُغفلوا كجيرودو وحتى بول كلوديل وجان انوي، من دون ان ننسى اونيل الاميركي. نقول هذا ونشير الى ان “المدارس” المسرحية من برشتية، و”المسرح الفقير” ومسرح القسوة…
وقبلا الستانسلافيكية او العبثية او الوجودية كلها تصدرت المشهد، بحيث همش كل من كان خارج هذه القوافل، علماً ان كباراً برزوا في السنوات الخمسين الماضية كهارولد بنتر، وادوار بوند في انكلترا، وستوبار… وسام شبير في اميركا…
قرأنا قبل سنوات عديدة نفياً لكبار الكتاب المسرحيين، ومنهم تينيسي ويليامز. لكن، عاد هذا الاخير الى الواجهة من جديد. اعمال عدة تحضر او تقدم اليوم في فرنسا، او انكلترا، او اميركا… وها هي نصوصه تشع بلغتها الحية ومضامينها المتمردة، كأسرة التابوات ومنتهكة المحرمات خصوصاً في المجتمعات البوريتانية التي انتعشت في الثلاثينات والاربعينات… وتجددت اليوم!.
ونظن ان المخرج السينمائي الاميركي ايليا كازان، كان من الذين تحمسوا لنصوص ويليامز، واخرج افلام عدة تعتبر من تحف السينما الاميركية، وشارك فيها كبار النجوم امثال اليزابيت تايلور، مارلون براندو كاترين هيبورن، فيفيان لي، ريتشارد بيرتون، بول نيومان، مونتغمري كليفت، آفا غاردنر، بيرت لانكستر وانا مانياني.
انه كطائر الفينيق، يولد من رماده من جديد، مهما تراكم هذا الرماد.
في الذكرى الثلاثين لرحيله (1983) يحتفل العالم بهذا الكاتب الذي تكاثرت على صورته الكليشيات كمدمن على الخمر، وكمثلي، او عصابي، ومصاب بالهستيريا.. لكن هذه الكيليشيات كانت أصغر من عالم تينيسي ويليامز، ومن حيويته، ومن تنوعه، ومن غزارته… ليبني معمارية عالية من مئات المسرحيات والقصص القصيرة والقصائد، والابحاث والمراسلات الضخمة، ومن مذكرات يومية تغطي ثلاثين دفترا.
صحيح ان العديد من مسرحيات ويليامز ترجمت الى العربية، مثل “بيبي دول”، و”القطة على صفيح ساخن”، (التي تقدم حالياً بنجاح كبير على مسرح برودواي)، و”عربة اسمها الرغبة”، الا انه لم يحظَ بما حظي به، كامو، وسارتر وبريشت وابسن وبيكيت، ويونسكو وجورج شحادة وهارولد بنتر، وبرانديلو، واونيل، وبيتر فايس وكان جينيه ومن آرثر ميلر، ونظن ان ذلك يعود لاسباب عدة منها، طبيعة مسرحه الفاضح، الشرس، الرغبوي، الكاسر، العاري، الذي استمد قوته من تناقضات المجتمع الاميركي، وتراجيدياته السلفية، وهوامشه، ومنها ان مسرحه، في عمقه اجتماعي سياسي لا ايديولوجي، والمسرح العربي غرق في هذا النوع، بحيث حجب كل ما يمكن ان يغوص على الواقع، اما من دون نظريات جاهزة، او من توظيف سياسي مباشر.
فالموضة التي ترسخت بين منتصف الخمسينات والثمانينات، تمثلت في التماهي بهذه الاسماء ونظرياتهم واتجاهاتهم وبياناتهم الايديولوجية والفنية، كأن بدا برشت وكأنه سفير المسرح العربي الجديد، وينبوعه المتدفق. وحتى بيرانديلو الكاتب هذا الايطالي الكبير، فقد قدم كثيراً خصوصاً في التباساته، او في كسره المساحة بين الخشبة والجمهور، او بين الممثل والشخصية. ولا ننسى هنا اثر بيتر فايس سواء في مرحلته البرشتية، او في مرحلته المسرحية الوثائقية، ولا ننسى هنا رائعته “ماراساد”… حتى بيسكاتور كان له وقع كبير لاسيما في اعماله التنظيرية السياسية التي وصفها في كتاب شهير “المسرح السياسي” (المعروف ان بيسكاتور هو معلم بريشت، ويقال ان بريشت لم يتقيد كثيرا بنظرية بيسكاتور ولا في ابداعه الاخراجي، او حلوله السينوغرافية والتقنية سوى تفاصيل استمدها من المسرح الاغريقي، او الياباني (مسرح النو)…
ولهذا، ولأن المجتمع العربي كان يغلي بالسياسة والايديولوجيا، ولانه لم يكن مهيأ لاستقبال مثل جرأة تينيسي ويليامز خصوصاً مقارباته “الجنسية” وتوغله في عمق الشخصيات الهامشية الحرة، وهذا الامر يطاول كتاب آخرين اغفلتهم التجارب المسرحية العربية (ولم تغفلهم الترجمات) امثال كلوديل، او جيرودو، او جان جيونو او حتى فيكتور هيغو، وليرمنتوف، وجاك اوديبري وسواهم.
ربما “نغمة” تحرره، وصراحته، وقوة مقارباته، من دون تنازلات، لا للمؤسسات الاجتماعية السائدة، وخصوصاً الايديولوجية والدينية، حالت دون تجرؤ المسرحيين العرب على الاقتراب منه، علماً بأن الافلام العربية التي اقتبست اعماله، كان لها دويّ كبير في العالم العربي، واذا كان المسرح أبعد نفسه عن هذه “المهمة” الشاقة، فإن السينما العربية، ومن ضمن الواقع، قدمت بعض اعماله، وان على الطريقة السهلة المباشرة مثل “عربة اسمها الرغبة”، و”القطة على صفيح ساخن”… وعلى حد علمي، لم يتناه لي انه قدم اي عمل مسرحي لهذا العملاق الكبير. واذا كان تينيسي ويليامز عُرف بمسرحه وقصصه وفضائحه (أول مثلي يعلن شذوذه علناً عام 1983 في أميركا)، قد يكون اندره جيد سبقه الى ذلك في فرنسا في الثلاثينات، وبنجاحاتها وجنونه وتفلتاته، فإنه لم يعرف
كثيراً كشاعر. واذا كانت المكتبة العربية تتضمن العديد من اعماله المسرحية المترجمة، فإن شعره بقي مجهولاً تماماً حتى من المتابعين لنتاجه.
هنا ننشر ترجمة لقصيدة مجهولة لتينيسي ويليامز. واعترف انه قبل ان اقرأ هذه القصيدة.. لم يخطر ببالي بأنه شاعر مميز، او مختلف، حسبت انه من هواياته الشعر. لكن بعدما قرأت هذه القصيدة شدتني الى قوتها، ولغتها “الفيزيائية” اللاطمة، والى انغرازها في جسم المجتمع السفلي الاميركي.
توماس كيث يتكلم عن وي ليامز
إنه أكبر كاتب مسرحي أميركي!
[ بعد ثلاثين عاماً من رحيله، أمازال تينيسي ويليامز يعتبر من الكتاب الأساسيين في الولايات المتحدة الأميركية؟
ـ ما زال يعتبر من أشهر الكتّاب، والأهم، وهناك قناعة مستمرة عند شرائح عريضة بأنه أكبر كاتب مسرحي في أميركا.
[ ومسرحياته أمازالت تلعب في نيويورك وفي سائر البلاد؟
ـ نعم! وبلا توقف، وفي كل مكان، على مدار السنة، وفي أمكنة عدة في الولايات المتحدة، ما زالت اعماله تقدم، سواء في مدينة أو على مسرح، أو جامعة، أو في تجارب الهواة، أو في فرق محترفة، فـ”عربة إسمها اللذة” و”القطة على صفيح ساخن” و”ليلة الاغوانا” تقدم على امتداد السنة(…).
[ فقط المسرحيات المشهورة تقدم، أو كذلك التي طبعت أخيراً؟
ـ منذ رحيل ويليامز عام 1983، نفذت 32 مسرحية ذات فصل واحد، وكذلك مسرحيتان طويلتان، في مئوية ولادته الأولى في 2011، ثمة إنتاجان ضخمان لبعض نصوصه الدرامية الأقل شهرة، أو ذات العصب التجريبي، نالت نجاحات شعبية مدوية، كما في إعادة تقديم “الجنة على الأرض” مع جوني هوليداي. ومن تلك النصوص The Milk Train Doesnt Stop here any more أو Something cloudy something clear أو Green Eyes أو A cavalier for Milady.
كما أن اقتباس بعض قصصه “الملاكم مانشو” وأحد سيناريواته: I Never Get Dressed Till After Dark on Sunday والتي نالت نجاحات كبيرة..
[ إصداراته الجديدة، هل تعطي أحجاماً جديدة لنتاجه؟
ـ نعم!.. فمعظم مسرحياته الأخيرة هي امتداد واستغلال لأسلوبه، ولحساسيته، ولأولويته الجمالية. فمسرحيات المرحلة الأخيرة، غالباً ما هي أقل واقعية، أكثر تجريبية، وأحياناً مبالغة، أو تافهة، لكن بقصد من وليامز.
[ أي أثر ترك ويليامز في المسرح الأميركي؟
ـ أسأل أي مسرحي، من السنوات الخمسين الأخيرة، تأثير ويليامز عليه. ومعظمهم يذكرون تينيسي في الطليعة، فهو، سواء في لائحة المفضلين، أو غالباً في رأس اللائحة.
(عن الماغازين ليترير)
محطات من سيرته

[ 1911 ولادته في كولومبوس
[ 1923 شقيقته أدونيا تشتري آلة دكتيلو للطباعة
[ 1928 أول قصة “إنتقام النيتوكريس”
[ 1929 دراسات في الصحافة في جامعة ميسوري
[ 1938 يرحل الى نيو أورليانز
[ 1940 أول مسرحية له “الوداع الطويل” تعرض في نيويورك.
[ 1943 يصبح سيناريست في غولدوين ماير
[ 1945 تقديم مسرحية “معرض الزجاج”
[ 1949 عرض “عربة تدعى اللذة” في لندن
[ 1950 طبع أول رواية له The Roman Spring
[ 1953 عرض Camino Real ? New york
[ 1955 أول عرض لـ”القطة فوق صفيح ساخن”
[ 1958 مسرحيتان في برودواي
[ 1959 عرض Sweet Bird (اقتبس فيلماً في 1962) و”نزول أورنيوس”
[ 1063 عرض The Milk Train Doesnt Stop
[ 1970 يعلن مثيلته على التلفزيون
[ 1972 عضو لجنة التحكيم في مهرجان البندقية السينمائي في إيطاليا
[ 1975 إصدار “مذكرات”
[ 1982 إنتاج فرنسي لـ”الجنة على الأرض” و”صرخة”
[ 1983 موت تينيسي ويليامز في نيويورك

قصيدة مجهولة لتينيسي ويليامز

هؤلاء الذين يجهلون ميقات رحيلهم
I
هؤلاء الذين يجهلون لحظة رحيلهم الملائمة
هم أشجع الكشافين
داخلين بلاداً لم يدخلها أحد
وفي اللحظة الآتية فلن يدخلها أحد
ـ
في شتاء المدن
علاقة السمكة المرسومة بالطبشور، وبفمها الفاغر
على حلبة كبيرة صامتة
من الاختناق
محترفة على سريرها الحديد الأبيض وتدريجياً
تتنفس عاكسة ضوءاً عنيفاً عليها.
ـ
قرابة الصبح، غالباً،
ما يحدث تغير في كيمياء دمائهم،
يحدث أبيضاً،
نتوءات عظام معلمة بالطبشور: للسكر
أدوات قاسية تفتح
أجرا البشعة المعلمة: لحشوها
بالنشارة قبل الصباح
وغالباً في خانات مرقمة
في عزلة الممرات الواسعة
تتقدم خطى شبيحة
ـ
شقيقته رمبو
كعصفور أبيض، أعماها الثلج، تتوه بين
جموع المؤرقين
حاملة كوباً حاراً من
منقوع حبوب الخشخاش،
تهرع، لاهثة وتجثو
مرة إضافية متوسلة اليهم قبول الغفران
وان يلتفوا جيداً
في ثوب مريم الأبيض.

أجراس أبراج الساعات
طيران عصافير
تلطف حتى مدينة بهذه القسوة كمارسيليا،
والشعور
هو نشوة الشغفة..
ـ
غالباً، قرابة الصبح،
تتسارع انفاسهم. بنفسيات تتبادل
بين عيونهم البلا اجفان وثنايا ملابسهم
والأسرة غير المرتبة
غيرة مسدلة
تترك في الشارع المتأخر سهراً
بريقاً انعم من جواهر ام
II
هؤلاء الذين يعبرون الوقت غير المعقول لقبولهم
هم اشجع الاستكشافيين،
زاحفين كالسلاطين على بطونهم تحت حدود
اسلاك حديد متشابكة
وباستمرار أعلى، في بلاد أكثر قمعاً،
نحو سهول “ثلجية واسعة”
رجال مخلصون ككلاب مفترسة تندفع
نحوهم، يطلقون النار فوق رؤوسهم ليتوقفوا!

تحت تاج الضوء المزيف
قبل الفجر في بلاد عالية
ينتصبون بكبرياء البائسين الصلبة
ليقدموا بيأس وثائق مزورة، صور
باسبورات لا تحمل اي تشابه حاضر
ويقال لهم ان يستمروا، وان يستمروا هو
مجدهم…
وفي الصيف تنزع الأرقام عن ابوابهم
وتصبح اسرتهم مزدوجة
مقدمين مزيداً من الأمكنة لقليل من النوم
وكمشاركين في اسرة سكرى،
وهم وبلا مثيل سلبيون وغير حساسين.
وتكادون تظنون انهم ينامون حتى
من دون ان يستديروا ليقولوا لكم.
ليقولوا لكم ان ترحلوا بالهدوء والبساطة
اللتين طلبوهما منكم قبل الدخول

ممارسات
لا تهمل ابداً
تحمل شبابهم بأصابع هي من شدة نحولها
ترتجف


بول شاوول

http://www.almustaqbal.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *