العازفون عن المسرح..

إذا كانت مقولة إن العرب في تاريخهم، لم يعرفوا المسرح لا تأليفاً ولا تمثيلًا، بالمعنى الدلالي والفني والنّصي، ولم يعرفوا الأدب المسرحي كما نفهم صورته اليوم، تبدو

 

حقيقة مسلّمة لا تقبل تفنيدًا أو تأويلًا بالنسبة لبعض النقّاد أو الدارسين الباحثين في مجالات أبي الفنون، وصحيحة إلى حد أن مثل هذا المفهوم أصبح تقليدياً، بل أصبح جزءا من طقوس الحديث عن المسرح العربي، فإنه صحيح أيضاً أن سؤال المسرح على جانب كبير من الخطورة والأهمية، نظرا لكثرة ما قيل فيه من آراء سواء كانت (غرضية) كما عند بعض المستشرقين، أو (عصبية) كما عند بعض صناع المسرح الأوروبي.

نعرف جميعا أن المستشرقين بوجه عام وعلى رأسهم إرنست رينان، قد أرجعوا عدم معرفة العرب للأدب المسرحي إلى نقص جوهري في طبيعتهم العقلية، أساسه التمييز العنصري بين الجنسين الآري والسامي، فعند رينان أن العقلية الآرية عنيت بالفلسفة والعلم، بينما اتجهت العقلية السامية إلى شؤون الدين، ولما كان (التوحيد) هو أعظم كشوف العبقرية السامية، فقد جاء ذلك على حساب نواح أخرى في التفكير الإنساني ومنها (الأسطورة)، فالساميون بحسب رأي هذا المستشرق المتعصب ليس عندهم أساطير لأن الأسطورة هي الوثنية في الدين… لكن إذا كان العرب بحكم عقليتهم السامية قد اتجهوا إلى شؤون الدين، وكان المسرح كما نعلم جميعاً قد نشأ في أحضان الدين، فلعل هذا أدعى إلى أن يكون العرب قد عرفوا الأدب المسرحي.

الدين والمسرح

إن التفرقة هنا خاطئة من أساسها، ولا توجد أمة لم تنشأ على التدين، لأن الدين فطرة في الطبيعة الإنسانية وليس صفة تكتسبها أمة دون غيرها، وقد اتفق علماء المقابلة بين الأديان على تأصل العقيدة الدينية في طبيعة الإنسان منذ أقدم أزمنة التاريخ، بل ذهب بعضهم إلى القول بوجود (حاسّة دينية) تحوج الإنسان إلى الاعتقاد كما تحوجه إلى الطعام، وعلى ذلك فكل أمة بالضرورة عرفت الدين، ولكن معرفة الدين لم تؤد بالضرورة إلى معرفة فن المسرح. في ذات السياق نقول إن (العقيدة) أشمل من الأسطورة وليس العكس، نعني بذلك أن العقيدة قد تحتوي الأسطورة، ولكن الأخيرة لا تحتويها، فالعقيدة فيها الإلزام الخلقي، وفيها الشعور الأدبي، وفيها الأمل في الخلاص، وفيها معاني الطاعة والولاء، ولا تتضمن الأسطورة بالضرورة شيئا من هذا كله، وقد وجدت أساطير كثيرة سببها عجز اللغة الإنسانية في نشأتها الأولى، فهي ليست أكثر من تعبير عن الحقيقة بالمجاز.

كما وجدت أساطير أخرى ترجع إلى ملكة التصوير ولا ترجع إلى ملكة التدين، لأنها لا تتجاوز الأوصاف الرمزية والمشابهة الفنية التي تصدر عن الخيال، أضف إلى ذلك أن الإنسان يسمع الأسطورة ولا يتدين بها، ويتدين بالعقيدة ولا يلزم عن ذلك أن تصطبغ أمامه بصبغة الأساطير، والخلاصة من ذلك أن إثبات الشعائر والأساطير لدى العرب القدامى، إنما هو تحصيل حاصل لا يدل على شيء.

شعائر تمثيلية مبكرة

ورد في بعض الدراسات أن العرب عرفوا الشعائر التمثيلية التي كانت أساس الدراما عند اليونان، كما عرفها المصريون والآشوريون والبابليون والهنود، ولكنها لم تتطور عندهم كما لم تتطور عند معظم تلك الأمم العريقة في تاريخها وحضارتها، وهنا نسأل: أين الجديد في مثل هذا الرأي الذي سبق إليه كل من عالم الآثار إيتيين دريوتون الذي ذهب في كتابه عن «المسرح المصري القديم» إلى أن المصريين القدامى عرفوا الأساطير الدينية التي هي اساس المسرح، بل عرفوا (فن الصراع) الذي هو عنصر الدراما، وذلك فيما تحمله أسطورة (أوزوريس) من صراع بين الخير والشر، والحياة والموت، والجبر والاختيار. وأين الجديد في رأي تلك الدراسات التي سبقها الباحث الدرامي الأراديس نيكول في مؤلفه الشهير «الدراما في العالم»، حيث ذهب إلى أن مصر القديمة عرفت التمثيلية الدينية، أو ما كان يعرف بـ (تمثيلية إبيدوس) وما كان يمثل في الألف الثانية أو الثالثة قبل الميلاد، تخليدا لذكرى موت أوزوريس، وكذلك عرفت التمثيلية الدرامية، أو ما كان يعرف بـ (دراما منف)، وهي عبارة عن نوع من التمرينات المسرحية ذات طابع ديني أو شعائري كانت تمثل عند سفح الأهرام.

وبمقابل المستشرقين المتعصبين، فقد أثبت كثير منهم من أمثال أوليري جيون في كتابه «الفكر العربي ومكانه في التاريخ» و نيكلسون سير في كتابه «العقيدة والشريعة في الاسلام» و جرو نيباوم في كتابه «الأدب العربي»؛ هؤلاء جميعا أثبتوا أو بتعبير أدق لم ينكروا أن العرب القدامى كانت لهم أساطير في الجاهلية، بل كانت لهم تلك الشعائر التمثيلية شأن غيرهم من أمم الأرض. ومن ذلك يمكن القول إن المسرح ليس خاصية بشرية تتميز بها كل أمّة بحيث تتهم الأمة في سليقتها وعبقريتها إن هي لم تعرف فن المسرح، فليس هو كلغة الكلام أو لغة الشعر، بحيث تصبح الأمة بدونهما بكماء أو غير شاعرة، وإنما هو فن يضاف إلى بقية الفنون، أو قل هو فن جماع عدة فنون، أعني أنه ليس الفن البسيط الذي ينبع تلقائيا من فطرة الانسان، وإنما هو فن مركب يستخلص من تجارب الشعوب، ولايعيب اللغة العربية التي وصلت في تطورها إلى الدرجة التي لايكفي أن يقال عنها إنها لغة شعر، أو لغة شعرية، بل (لغة شاعرة) لا يعيب هذه اللغة أنها خلت في القديم من أدب المسرح.

وأخيرا ليس المهم هو إن كان العرب القدامى قد عرفوا فن المسرح أو لم يعرفوه، وإنما المهم هو أن العرب المحدثين والمعاصرين قد عرفوا هذا الفن، وأنهم قد استجلبوه ضمن ما استجلبوا من فنون القول الأخرى، كالرواية والقصة القصيرة، وأنهم عملوا على تأصيل هذا الفن في وجدان الجمهور والكثرة القارئة لأدب المسرح، والكثرة المشاهدة لفن التمثيل، وذلك على امتداد أكثر من قرن من الزمان، ولا يعيبهم ذلك في شيء، طالما أن الابداع الخالص لم يكن وقفا على أمة دون غيرها، فقد تكون الأمة وفيرة الابداع في جانب، قليلة الحظ من الابداع في جانب آخر، هذا فضلا عن أننا – لم نعهد أية ثقافة من الثقافات أنها كانت محض ابتكار خلا من كل تأثر خارجي، أضف إلى هذا كله، أن قوة التفكير لا تقاس بالقدرة على الابداع فحسب، وإنما تقاس كذلك بالقدرة على فهم ما يبدعه الآخرون، وعلى ذلك فالأمة لا تتهم بالقصور إن هي استطاعت أن تستوعب إبداعات الفكر في أمة أخرى، وإنما تتهم بالتقصير إن هي شعرت بحاجتها إلى هذا الفن أو غيره ولم تعمل على نقله وتأصيله وطبعه بطابعها الخاص وشخصيتها وهويتها المتميزة، وإشاعته من خلال ذلك في وجدان المساحات العريضة من جماهير الشعب.

وانطلاقا من فوق هذه القاعدة النظرية، وإذا سلّمنا جدلا بأننا لم نعرف المسرح في العصور الأولى من الحضارة العربية، فقد عرفناه حديثاً، سواء جلبناه أو اقتبسناه، فنحن الآن نعرف فن المسرح بكل تفاصيله وتطوره ومدارسه وتقنياته وأشكاله التي طورنا بعضها في تقنيات متنوعة، بل نعيش معركته وتحدياته وإشكالياته، ونقيم له المهرجانات المسرحية في أرجاء الوطن العربي، فماذا علينا أن نفعل ونحن نشهد عديد التحديات التي يواجهها المسرح وبخاصة فيما يتعلق بعزوف الجمهور عن حضور المسرحيات؟.

العزوف وأسبابه

تقول الدكتورة نهاد صليحة أستاذة الأدب والنقد في أكاديمية الفنون بالقاهرة في كتابها الموسوم بـ «المسرح بين الفكر والفن»، حول العلاقة بين عالم الواقع وعالم المسرح بين المتفرج والتجربة المسرحية المصنوعة: «يتطلب من المتفرج أن يتقبل عن طيب خاطر ولفترة العرض، ذلك «الوهم المسرحي»، باعتباره واقعا- كما قال كولريدج في جملته الشهيرة:THE WILLING SUSPENSION OF DISBELIF .. وذلك حتى يتأتى له أن يتمثل الرؤية المسرحية فكريا ووجدانيا، بحيث تصبح إضافة إلى نظامه اليومي».

ومن حديث صليحة هذا، نبدأ حديثنا حول واحدة من أخطر قضايا المسرح، التي ومن أسف لا يلتفت لها كثيرا حتى في أكبر مهرجاناتنا المسرحية، وملتقياتنا الثقافية والفكرية ذات الصلة بفنون ومجالات المسرح، ونطرح سؤالاً: هل الجمهور العربي، جمهور مشارك في العرض؟ أم هو جمهور منفصل عن نسيج العالم المسرحي الذي يقدّم أمامه في اشكال وقوالب فنية مختلفة؟ وهل صحيح أن طبقة المثقفين والنخبة من النقاد والاعلاميين في بلادنا لا تهتم إلا بمسرح النجوم والمشاهير، أو ممن تربطهم بهم علاقات شخصية أو صداقات؟ تحت ما نسمّيه بـ (الشللية)؟

ما يهمنا في الواقع هو المسرح كعمل ثقافي، وربما كعرض فني يجمع عناصر تقنية فن المسرح (نص، مخرج، ممثل، لواحق العرض المسرحي من ديكور وموسيقى وسينوغرافيا، وجمهور)، ومدى تأثير هذا المسرح في الواقع الثقافي الراهن، فالجمهور يبتعد عن المسرح لإحساسه بأن ما يقدمه هذا الفن الرفيع قد فشل تماما في التعبير عن واقعه وطموحاته وأحلامه وقضاياه، ويتأثر المسرح بدوره بسبب عزوف الجماهير عن عروضه، ومن هنا تنشأ حالة من الانفصال والعجز لدى المسرح، فيقع تحت عوامل مجحفة بالغة السوء، إذا عليه كي يستمر أن يخاطب جمهورا عريضا متنوعا، ليحقق له في ذات الوقت إشباعا كاملا لاحتياجات فائقة الضخامة، فرضتها عليه الثقة الهائلة التي أنيطت به كمؤسسة مناضلة.

وفي ظل ما يعانيه من انعطافات في مجال الخلق الكتابي، وضعف الامكانيات المادية والدعم الرسمي والنقدي، وأحيانا وفي بعض المجتمعات النظرة الاجتماعية المسطحة القاصرة الشاحبة لدوره الابداعي الخلاّق، مضافا إلى كل ذلك ما يتعرض له فن المسرح في بعض البلدان من رقابة صارمة وملاحقة ومحاربة، ناهيك عن عوامل القلق التي تعتري غالبية العاملية في هذا القطاع الحيوي، بسبب عدم وجود قوانين رسمية نافذة تماما، تحميهم وتؤمن لهم الحياة المستقرة الكريمة برغم وجود «نقابات فنية وتمثيلية»، مرتبطة إلى حد كبير بثقافة السلطة، فتصبح بذلك مجرد مؤسسات صورية تؤدي دورا غير دورها.

لن يتمكن المسرح – وهو مجال العمل الفردي الذي لا يلتزم بالمصالح الفئوية- من أن يجتذب بقوة متساوية كل مستويات الجمهور دفعة واحدة، فقد اعتاد قطاع كبير من الناس في الوطن العربي على المسرحيات الهزلية الرخيصة التي رسخها المسرح التجاري المسفّ الهابط قبل نحو عشرين عاما، زد على ذلك ما تقدمه القنوات الفضائية من متع وفكاهة ومنوعات لا تسمن ولا تغني من جوع، مقابل جهد بسيط، كذلك ما يقدمه الانترنت من أعمال فنية ومسرحيات لا ترقى الى المستوى الفكري المطلوب، من خلال عمليات قرصنة، تتخطى كل حواجز حقوق الملكية الفكرية، ومن خلال هذه الأدوات أمكن لأعداء المسرح وهم كثر، ترسيخ مفاهيم خاطئة لدى الجمهور، أقلّها أن الذهاب الى مبنى المسرح أصبح وسيلة مكلفة تستنزف المال والجهد والوقت، بمقابل الحصول على المتعة التي نبحث ونحن جالسون على الارائك بلا أي مجهود بدني يذكر، وكأن لسان الحال يقول: إن ضعف المسرح عندنا يكمن في علاقته بالحدث الانساني الكبير، ونسأل: كم هي الأحداث الكبيرة والعظيمة التي مرّ ويمرّ بها وطننا العربي، ومع ذلك لم نجد تلك النصوص المسرحية العظيمة على شاكلة ما انجزه كبار كتاب المسرح في عصره الذهبي في مرحلة الستينيات؟ هل كان لاختفاء كبار المسرح من الساحة دور في عملية الهدم التي يمارسها المسرح التجاري دون وازع ثقافي أو وطني أو حتى اخلاقي؟!

المسرح وجمهوره

لا بد أن نقرّ بحقيقة مؤلمة – هي أن هناك أزمة علاقة بين المسرح وجمهوره، وأن هذه العلاقة التي نشاهدها خلال المهرجانات المسرحية، هي للأسف علاقة وقتية مرحلية مناسبتية تبدأ وتنتهي في زمن محدد، ولا تشكل الصورة التي نتمناها لمسرح يومي متواصل يخلق ويشكّل (حالة مسرحية) تنتج مسرحا وكتابا وقضايا ومحاورات، وحوار تجارب، يصنع لنا في النهاية ثقافة المسرح التي تحقق للذائقة الجماهيرية دورها الفاعل في دعم الثقافة الجادة وخلق الثقافة الجماهيرية لا ثقافة النخبة، علينا الاعتراف، وبعيدا عن المهرجانات المسرحية أن هناك غربة مؤلة بين المسرح وجمهوره، وفي تقديري أن أحد أهم أسباب هذه المعضلة الخطيرة، يرجع إلى انعدام جماليات الثقافة المسرحية عند الناس، حتى أن الكثيرين ممن يشتغلون في الحقل المسرحي، لا يدرسونه، ولا يعرفون عن تطوره الكثير، وفي مجالات أخرى أين طلبة الجامعات والمعاهد العليا والمدارس من فن المسرح الحقيقي ؟ .

مع أسف أننا في المسرح نعرض للناس المسرحيات، ولكننا لا نعرفهم بثقافته ولا باصول الدخول اليه، فللمسرح آداب ما زلنا نجهلها وهذه خطورة أخرى تضاف إلى ما تعانيه حركة المسرح برمتها في الوطن العربي، فلا غرابة أن يدخل عدد كبير من الجمهور إلى صالة المسرح متأخرا، أو في منتصف العرض المسرحي، ولا غرابة أن تسمع الصيحات والنكات والصفير، وبكاء الأطفال خلال العرض المسرحي، وكأن شيئا لم يحدث، مضافا إلى كل ذلك غياب الناقد وحركة النقد الموضوعي ودورها في ترسيخ فن ملتزم متطور يعزز ذائقة الجمهور وملكة القراءة، لن ندخل في مقارنة بين جمهورنا وجمهور المسرح في الخارج، ولن ندخل في مقارنة اخرى في مجال قدسية المسرح كمكان وثقافة وأدب والتزام، غير أنه لا انفلات من الحديث عن تلك العزلة التي بنت هامشاً أصبح جدارا، بين الجمهور وذلك اللون الرفيع من المسرح، فالجمهور ومن خلال مراقبة حثيثة أصبح لا يغريه شيء بمشاهدة ما يطرح على خشبة المسرح العربي، ولهذا تسيّد المسرح التجاري الساحة، ومعه تسيّد الممثلون الفاشلون الخشبة الذهبية، بل أصبح هذا المسرح الهزيل عنوانا لثقافة التسلية وقتل أوقات الفراغ.

وهنا يثور سؤال: أين وزارات التربية والتعليم في وطننا العربي الكبير؟ هل تدرّس مادة التربية المسرحية ضمن البرامج والمناهج المدرسية؟ ربما يتحقق ذلك في دول محدودة جدا، لكن المجمل العام يشير إلى أن مثل هذه القضية ما زالت على الهامش بل في ذيل قائمة الاهتمام الرسمي، متناسين أن جمهور المسرح الحقيقي الذي نبحث عنه يبدأ من المدرسة.

اقتراحات

ثمة الكثير مما يمكن للمرء أن يطرحه بخصوص تفعيل المسرح وترسيخه لدى الجمهور منها:

◆ على المسرح أن يقدّم أعمالا ذات طابع فني مميز، من خلال الاثارة الدرامية، في إطار الفعل والتجسيد والمشاهدة، أعمالا تجمع بين الفكر والفن والفرجة، وأن تكون هناك محاولات جادة لتأصيل قضايا الشكل المسرحي والمضمون.

◆ على المسرح أن يتجه إلى استيعاب التقاليد المسرحية واصولها وتجاربها الابداعية ويعمل على تشريبها لفنانيه، ثم محاولة إقحام الموروثات في مجال التراث، حتى وإن اضطررنا للعودة إلى ريبورتوار المسرح وإعادة صياغته بما يتناسب وحالة الجمهور، لايجاد وسيلة للاقتراب من هذا الجمهور وردم الفجوة التي تفصله عن المسرح الجاد الذي أصبح في حالة لا يحسد عليها.

◆ يقوم المسرح منطلقا من رسالته بتثقيف جمهوره وتعليمه آداب دخول المسرحيات، وعليه أيضا أن يبدأ بنفسه ملتزما بمواقيت فتح الستارة عن عروضه، ثم توضيح برامجه وخططه ومشاريعه ومشاركاته المهرجانية من خلال تحقيق فكرة عالمية (نادي أصدقاء المسرح) بما يحققه من اتصال متواصل مع الجمهور، بهدف تنمية عواطف الانتماء عندهم لهذا الفن، بما يحقق أيضا تكوين جمهور ثابت للمسرح بعيدا عن مفهوم شباك التذاكر.

في النهاية إذا كانت حجة الجماهير أن أعمال المسرح المعاصر ليست واقعية بما يكفي، ويجنح بعضها إلى البهلوانية وتقنية مسرح المخرج على حساب ذائقة الجمهور، فإن هذا أمر قابل للنقاش، وهنا لابد أن نسجّل أن الفن كله تعبير عن الواقع وليس تسجيلاً له، وهذا ما يجعله بالضرورة عملا له صفة (التجريد)، الذي يعني الاختلاف والمغايرة عن الأصل فالفنان في تجربته يخوض بدايته من الواقع، ويعمل على تجريده من مظاهره الانسانية والمكانية،، ويخرج في النهاية بحياة أخرى جديدة على صلة، وليس تصويرا فوتوغرافيا له، لأنه يلغي في هذه الحالة كل خيالات وإبداعات الكاتب، وعلى المتلقي أن يسلّم بأن ما يراه فوق خشبة المسرح مشابه للحياة، وغير قابل للمراجعة الحرفية طبقا لما يحدث في الواقع.

نحن نعلم أن المسرح التقليدي يضع حاجزاً ما بين العرض والمتفرج من خلال (الستارة) والمكان، ولا يجوز أن يحدث اتصال بينهما، خشية فقدان عنصر (الايهام بالواقع) لوظيفته، والممثلون يعرفون أنهم يقدمون عرضا لجمهور خاص، وهذا يتطلب منهم تقمصاً كاملًا للشخصيات بحسب قسطنطين ستانسلافسكي (رائد فن التقمص والواقعية في المسرح)، وهذا يتطلب أن يكون كل شيء خاضعا لمتطلبات التجربة الدرامية لاحداث التأثير في نفوس المشاهدين، حتى أن الديكورات وهي شيء مصنوع عادة والجمهور يعي هذا، ولكنه طبقا لحالة المسرح يوهم نفسه بأن كل شيء يوحي بالواقع، والمسرح من الناحية الوجدانية أكثر تعبيرا عن الحقيقة والواقع لأنه غير الحياة، هو يستمد كيانه ووجوده منها، ولكنه أرقى منها درجة، فهو يحاسبها، ثم هو يرسم لها طريقا لما يجب أن يكون، وهذا بطبيعة الحال يأتي بالفكر الذي يحدد مسارات الخيال، وحين يصل المجتمع إلى فكر المسرح ورسالته وهدفه الحقيقي، تتحدد علاقته الحقيقية به، مع حقيقة مؤكدة أن الجمهور عنصر إيجابي في فن المسرح، ولا يمكن تجاهله مهما كانت صفاته، وعلينا في النهاية محاولة استرضائه وجذبه وانتزاعه من التلفزيون والفيديو وعالم الانترنت، وهي جميعها من أخطر أعداء المسرح، لاعادته إلى حظيرة أبي الفنون، إلى المسرح الذي وصفه الناقد الشهر إلمر رايس بقوله: «مهما يكن شكل المجتمع، فإن المسرح باق، وما بقي العالم وبقيت أحلام من يعمرونه من البشر، فسوف يكون هناك مسرح». ولكن أي مسرح نريد؟ وعن أي جمهور نبحث؟ فهل لنا أن نتخيل كيف يكون مسرح بلا جمهور؟

المراجع

◆ حمادة، د. إبراهيم، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، دار الشعب، القاهرة 1971

◆ ابو الخير، محمد حامد، مسرح الطفل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1988

◆ أردش، سعد، المخرج في المسرح المعاصر، عالم المعرفة، عدد 19، الكويت 1979

◆ العشري، جلا، المسرح ابو الفنون في النقد التطبيقي، دار نافع للطباعة والنشر، القاهرة 1973

◆ سرحان، د. سمير، تجارب جديدة في الفن المسرحي، دار المعرفة، القاهرة 1970

◆ راغب، د. نبيل، المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1968

أحمد علي البحيري

http://www.alittihad.ae

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *