مونودراما فلسطين.. رسالة لزمن آتٍ ضحى عبدالرؤوف المل

المصدر : المدى : نشر محمد سامي موقع الخشبة

لم يخرج الممثل والفنان الفلسطيني” فواز بسومي”  من المخيمات الفلسطينية في مسرحية” حكي قبور ” بل!  دخل قبورها ايضا . ليستخرج من الشخصيات التي حاكاها لب الوجع الفلسطيني برمته،  ويبكي الجمهور بعد أن اضحكه في عرض الاشكاليات الاجتماعية التي حبكها المخرج والكاتب “احمد العربي خميس” بأسلوب مونودرامي.

كشف عن قدرات الفنان ” فواز بسومي ” المسرحية.  فقد استطاع الامساك بالشخصيات ببراعة مونودرامية كشفت النقاب عن المسرح الفلسطيني،  وقدراته التي تحتاج الى تسليط الضوء عليه بقوة.  ليكون نافذة على العالم.  ولا سيما بموضوعاته الخاصة بشعب موجوح تعرض الى الشتات،  والى انتهاكات في حقوقه على الأرض التي يقترشها أينما حل،  وكان فيها ضمن مخيمات خاصة باتت تكتظ بالسكان .   لتشكل عنواناً للبيت الواحد الفلسطيني بكل همومه ومشاكله ومآسيه،  فيرصد البسومي شخصياته من قبور يحرسها أبو عيسى الرجل الذي مات ابنه الشاب بعد أن جاهد لتعليمه الهندسة.  فيموت في حادث سيارة وهي من الواقع المعاش الذي يصدم الانسان،  ويتركه في هذيان الوجع كالسكير غير القادر على التوازن،  وما بين الوجع والألم والفكرة المسرحية لعبت المفارقات المسرحية دورها في تشكيل الضحكة الموجوعة.  اي المضحك المبكي الهادف الى خلق صورة مصغرة عن مخيم نهر البارد في شمال طرابلس لبنان . فهل المسرح المونودرامي الفلسطيني هو رسالة لزمن آتٍ؟..
تعرية للواقع وخلق من العالم الماورائي.  انتقى منه “احمد العربي خميس ” شخصياته بتنوع اجتماعي،  يوحي بقوة المعاناة التي يتعرض لها الاحياء من الفلسطينيين،  وبمفارقات الكوميديا السوداء.  لرجل اصيب بالجنون أو بالاحرى الجنون الواعي،  والقادر على انتزاع الحقائق الحياتية لشعب  من فلسطين التي ما زالت على قيد الحياة،  وهي في قبور الاحتلال تنازع الوجود من خلال ابنائها ومشاكلهم في الشتات الذي بات يشبه مقبرة ابو عيسى التي تحوي ابناء الحي الواحد.  أو ابناء المخيم أو من استشهدوا في سبيل قضية البقاء،  وتحرير فلسطين من يد المحتل بشكل اجتماعي بحت نلمس فيه معنى محبة الجيران،  وخلافاتهم والآفات الاسرية في احترام العائلة وومشكلة الزواج،  والحب بين شباب المخيمات وهمومهم التربوية والتعليمية والفنية.  وحتى الاستشفائية منها والمهنية لتجتمع كلها على مسرح “بيت الفن”  طرابلس،  ولكنها في الحقيقة هي المسرح الفلسطيني كقطعة من الحياة التي يعيشها كل فرد من افراد المخيمات على امتداد الوطن العربي برمته.  فهل استطاع  المخرج والكاتب “احمد العربي خميس”  الخروج من المخيم ليفتح لنا نافذة على أوجاعه؟  أم أن البسومي منح شخصياته الروح وفق قدراته التمثيلية التي اظهرت قوته التعبيرية في تجسيد الادوار والحركة على المسرح، وهو ثابت في مقبرة جعلتني في كتاب مسرحي مونودرامي اقرأه، كما قرأت كتاب “الذاكرة الازلية”  لمايكل نيوتن حيث يؤكد على ماورائيات الموت، ويحاكي افراد كتابه بلغة علمية بحثية،  وما الى ذلك بينما البسومي منحها روحية الحياة ما بعد الموت.  لتشهد على تنوع الشعب المتماسك رغم معاناته ومرارته،  والتراجيديا الحياتية بكل تفاصيلها التي ادركها المشاهد من خلال شخوص مسرحية ” حكي قبور ” التي تميزت بالبساطة من ديكور واضاءة وازياء . وما الى ذلك من مقومات المسرح البصري التي كانت تحتاج الى تقنيات  سينوغرافية تؤدي دورها الاحترافي، كما فعل الفنان والممثل “فواز بسومي ” في هذه المسرحية التي مزجت الخبر بالواقع،  والتاريخ بالمونودراما والحدث بالتراجيديا أو بالكوميديا السوداء .
لم يعد حارس المقبرة ولم يبق ابنه من الاحياء وايحاءات ازدواجية لمشاكل تكاثرت،  وباتت كالعبء المميت الذي يحمله كل فلسطيني على اكتافه.  ليخرج” ابو عيسى”  على واقع النفي المجنون القدري،  والمحمل بنتائج انسانية اجتماعية تزداد على ابناء الشعب الفلسطيني بشكل خاص.  وابناء المجتمع العربي بشكل عام. فهل يحاول كاتب المسرحية كشف النقاب عن الظلم الذي يتعرض له هذا الشعب،  وهو على أرض ولد عليها وانجب عليها ودفن عليها ، ويخدمها كما الابناء البررة وتنتهك حقوقه؟.. أم انه يمسح الحزن عن شخصيات انتقلت الى العالم الما ورائي وما زالت ترنو الى العودة؟..
اظهرت مسرحية “حكي قبور”  الظلم الاجتماعي الاشد وطأة من الظلم السياسي،  وإن كانا يرتبطان ببعضهما البعض من حيث القدرة على الاهتمام بالشعب،  ولكن بعفوية يعيشها أبو عيسى المتوهم ان ابنه الذي تخرج من كلية الهندسة ودهسته سياره ما زال حياً.  ليسترجع المشهد بوعي المتمني لابنه الشهادة . ليكون شهيداً كالكثيرين الذين دخلوا المقبرة،  وعشنا شخصياتهم مع الممثل “فواز بسومي”  وقدراته المونودرامية التي تستحق بالفعل التصفيق بحرارة،  كما فعل كل مشاهد استمتع وضحك وبكى في هذه المسرحية التي تميزت بالسهل الممتنع للمونودراما الفلسطينية ” حكي قبور”والتي تبشر بولادة  مسرح من مخيم نهر البارد  يتصف بالفهم الفني المرتبط بالادب والمحاكاة من خلال اعادة للحدث الواقعي بلغة مسرحية محملة بالتورية والايحاء  والنقد الاجتماعي الحي.  والمتفاعل مع الجمهور وقضاياه  الحياتية التي تكشف النقاب عن مجتمع كامل يحيا في مخيم ذي مساحة محدودة يشبه خشبة المسرح التي اكتظت بالقبور.

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *