مصطفى الرمضاني يفضح الشفوية في «نقد النقد المسرحي المغربي»

 لعل النقد ضرورة، النقد بأشكاله المختلفة ولو أنه غير مرحب به، ومنه النقد الأدبي. ألم يشر ناقد عربي قديم إلى غضب الشعراء وقد غربل نصوصهم، فصدح أنه «كالمسن يشحذ ولا يقطع».
وضمن جنس النقد صدر للناقد والمسرحي مصطفى الرمضاني كتاب «نقد النقد المسرحي المغربي»، عن منشورات المركز الدولي لدراسة الفرجة، (140 صفحة)، ويشتمل على خمسة فصول. يعرض فصل لمستويات قراءة هذا النقد المسرحي الذي بدأ بمرحلة النقد الصحافي والانطباعي، فالنقد المعتمد على مناهج، خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات، منها الاجتماعي الذي يركز على البعد الأيديولوجي، فالنقد العلمي الذي تسنده المعرفة الأكاديمية. وقد ظلت القراءات محايثة للإبداع المسرحي، ولكنها لم تتمكن من البرهنة على أن النقد المسرحي قادر على «ربط الجسور بين الإبداع والمتلقي، وبين الإبداع والمجتمع». ويعود السبب إلى حداثة الجنس المسرحي في المغرب، والسؤال الثقافي.. فالمسرح فن شامل منفتح على حقول معرفية وتعبيرية أدبية، وغير أدبية (بصرية، وسمعية، وحركية). أليس «المسرح فن الفرجة»، أشمل تعريف لأبي الفنون؟ والفرجة تنجم عن العرض المسرحي على الركح. ويرى الناقد أن بعض المسرحيين المغاربة، الذين يجمعون بين كتابة النص والإخراج والنقد، (ويضاف إليها إدارة الفرقة المسرحية بل والتشخيص) هم من استطاعوا مقاربة النص المسرحي مع مراعاة خصوصيته، بينما ركز غيرهم على المضمون فقط. ويضيف الناقد حدثا آخر طور القراءة النقدية للنص المسرحي المغربي، وهو قيام وزارة الشبيبة والرياضة (1957) بمناقشة العروض المسرحية التي تعرض خلال المهرجانات الوطنية لمسرح الهواة، والتي ظلت تتطور من مهرجان إلى آخر، ثم انتقل تقليد المناقشة إلى اللقاءات المسرحية.. فبدأ الانتباه إلى العرض المسرحي، والسينوغرافيا، ولغة الجسد وتأثيث الركح.. وخطت مناهج النقد المسرحي خطوة أخرى عبر انفتاح الجامعة على محيط الإبداع المسرحي، وأصبح المسرح درسا في الجامعة كفن للفرجة.. كما أسهمت بعض المجلات المغربية المتخصصة «المدينة، وخطوة…» في تطوير النقد المسرحي، وإسهامات الباحثين المتخصصين..
وركز فصل تحولات النقد المسرحي المغربي، من الشفوية إلى سلطة النظري، على تزايد الإصدارات والأبحاث والدراسات النقدية، كما تفيد بذلك الإحصائيات البيبلوغرافية. وقد استفاد المسرح المغربي من النقد الإجرائي خلال مسيرة مسرح الهواة أكثر مما استفاد من النقد النظري، ولو أنه في مجمله كان نقدا شفاهيا عفويا. فقد كانت فترة الإقصائيات المحلية والإقليمية والجهوية وإقامة المهرجان الوطني تثير الآراء والانطباعات ما يمثل وسيلة للتدريب على آليات الكتابة. وعلى الرغم من دينامية النقد المسرحي المغربي، فقد سجل الناقد نقصا ملموسا في ما يخص النقد المسرحي الإجرائي (التطبيقي) ورده الرمضاني إلى أسباب منها، اختفاء المهرجان الوطني لمسرح الهواة، اختفاء اللقاءات المسرحية، وغياب الخلف، والعامل السوسيو اقتصادي، (مساهمة التحولات الاجتماعية في تأزيم الوضع عامة وليس المسرح وحده)، والمركزية (حيث تقدم العروض المسرحية «الاحترافية» في الرباط والدار البيضاء فيحرم جمهور باقي البلد من متابعة تعكس تعدد الآراء ووجهات النظر..)، وضعف الثقافة المسرحية (كثير مما يكتب لا علاقة له بالنقد المسرحي)، وضحالة الإبداع…
يقوم الإبداع على التميز والفرادة، ولا يعني ذلك الانطلاق من نقطة الصفر. وهكذا انطلق فصل تداول التناص في النقد المسرحي المغربي من اعتبار التناص مصطلحا مغرقا في القدم، من خلال ما يفيد معناه. وقد لاحق الناقد معنى المصطلح منذ قول عنترة «هل غادر الشعراء…»، فإشارة ابن رشيق «هذا باب متسع لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه». فلا وجود لنص خالص. ومع تطور حركية التجريب الناتجة عن الثورة الصناعية، وظهور نظريات مقاربات النص الأدبي ومنها حوارية باختين، (تعدد الأصوات وتلاقح النصوص وتداخلها)، وكتابات كريستيفا وجينيت.. حتى حديث بارث عن النص الغائب، وموت المؤلف. فلا نص يتمتع بأب شرعي واحد. وهكذا، فبالنسبة للتناص لا وجود لنص مؤسس، وكل نص عرضة لثقوب، ومن ثم نشأة نظرية جمالية التلقي. ويستشهد الناقد بأهمية السياق، التي أثارها صبري حافظ، لتوضيح مفهوم النص الغائب. وهكذا يبقى النص المزاح هو الجذر، والنصوص المزيحة هي الفرع.. ثم يستعرض الباحث أنواع التناص، كما أشار إليها جينيت، المناص أو العتبات، الميتانص (العلاقة التي تربط نصا بآخر من دون ذكره)، النص اللاحق.. ورغم كثرة تداول التناص في النقد الحديث للرواية والشعر، فلم يظهر في المسرح العربي إلا في سبعينيات القرن العشرين. وقد كانت انطلاقة المسرح العربي تناصية (استلهام مارون النقاش «لبخيل» موليير).
ويلاحظ الرمضاني أن نقاد المسرح العرب لم يستعملوا مصطلح التناص صراحة وإن استعملوا ما يوازيه (التقليد، الاستنبات)، وفي النقد المغربي تداول النقاد المصطلح باحتشام في الشعر والسرد دون المسرح. وهكذا اعتمد المسرحي المغربي عبد الله شقرون مصطلح الاقتداء، والناقد المنيعي ظاهرة التناص، من خلال مصطلح التأثر، والحوار، والتفاعل، والاستحضار، والتهجين، والتحويل… واستعمل عبد الرحمان بنزيدان مصطلح الاقتباس، وعبد الكريم برشيد المراجع، أي المرجعيات النظرية والفنية التي اتكأ عليها المسرحيون المغاربة لِمَسْرَحَة التراث كغيره من كتاب المسرح المغربي (الطيب الصديقي، أحمد الطيب العلج)..
وفي ثنايا الكتاب يقدم الكاتب نقدا لظواهر سلبية تسكن جسد الممارسة النقدية في المسرح المغربي، ومنها أن جل الذين «يكتبون عن المسرح لم يمارسوا المسرح عمليا»، وعدم قيام الإعلام المرئي كوسيط بين الجمهور والإبداع بدوره، فهو يختار «الوقت الميت: يكون العرض آخر الليل، لتضيع على المشاهد فرصة المشاهدة»، وتهافت كثير من المسرحيين على الإنتاج المتسرع للربح السريع «فصار مسرحنا حين يعرض في بعض التظاهرات العربية عرضة للنقد والسخرية:[…] مغادرة الجمهور لقاعة العرض أثناء مشاهدة بعض العروض المغربية التي أوفدتها الوزارة الوصية لتمثيل المغرب، في بغداد وقرطاج وفي مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة. ومرد ذلك إلى المحسوبية في اختيار العروض… «كما انتقد الناقد الكتابات الصحافية «الشاذة» و»الأفاكة» التي تعكس جزءا من الوضعية التي ساهمت في ترسيخها «الصحف التي تقوم بالدعاية لبعض المبدعين المسرحيين الموالين لها، وجندت ثلة من مراسليها وصحافييها للدعاية والترويج لإبداعاتهم». ويقدم مثالا ينضح بؤسا لندوة من المهرجان الدولي الخامس للمسرح الجامعي في كلية الآداب في نمسيك في الدار البيضاء (1992). «فالندوة لم تقدم أصلا، وكتب بعض الصحافيين تغطيات حولها يتحدثون عما نوقش فيها وعُرض خلالها…».
لعل الفراغ يبرر التأليف، ولعل التأليف يخلق التراكم، ولعل التراكم يعرض نفسه للمساءلة أو التأريخ، وذلك جزء مما سعى إليه مؤلف الكتاب. لعل التراكم يبرر التأليف، ولعل التأليف يغربل التراكم، فهل كل غربلة تضمن التنخيل؟
 
————————————————————————–
المصدر :مجلة الفنون المسرحية – عبد العزيز جدير – القدس العربي

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *