مسرحي تونسي يستعمل الفن الرابع لتحقيق الإدماج الاجتماعي

المسرح فن الفرجة والمتعة، ولكنه كفن حي هو فن التأثير في محيطه بامتياز، فن الاحتجاج والرسائل الثقافية والمعرفية والسياسية والاجتماعية، وتذهب وظيفته أبعد حتى من الجماليات المعهودة، حيث يمكن للمسرح أن يكون أداة تربوية ونفسية هامة وبالتالي أداة اجتماعية يمكنها تغيير الأفراد والمجتمع.

ما الذي نتأمله من باحث وفنان مسرحي غزير الإنتاج، ويشغل مهمة مراقبة تدريس مادة التربية المسرحية في المدارس، غير الذهاب بعيدا نحو مغامرة مختبرية تبحث في مدى علاقة تخصصه ذاك بالإدماج الاجتماعي كواحد من أهم أهداف المسرح؟

وما الذي ننتظره من بلد اضطلع بالريادة واحتل الصدارة عربيا في الإنتاج المسرحي كمّا ونوعا، وجعله قريبا من نبض الشارع وهمومه؟

إنه التونسي البغدادي عون، في بحثه الميداني الذي تحدث عنه، وثقه وشرحه في كتاب حمل عنوان “التربية المسرحية والإدماج الاجتماعي” الذي يعد – بحق – إضافة إلى المكتبة العربية المتخصصة في هذا المجال، كونها تعاني من تكدس النظريات المستوردة على حساب التجارب الميدانية المحلية ذات الالتصاق الشديد ببيئتها الاجتماعية.

® تجربة اعتمدت أسلوب الورشة وتعدد المشاركات والإسهامات وجعلت مفهوم المسرح أشمل وأعمق من كونه فنا فرجويا

نزل الباحث والمسرحي التونسي إلى عمق الشارع الشعبي في تونس، واختار له أكثر الأحياء كثافة سكانية (الرابع في العالم ويوصف بـ”الصين الشعبية”) وأشدها فقرا وتهميشا وإثارة للتناقضات الاجتماعية، مما يسهّل جعله حاضنة للعنف والتطرف شمالي العاصمة تونس.

التربية المسرحية

واهتم عون بشريحة الشباب الذين يعانون من صعوبات في الاندماج سواء من التلاميذ أو المنقطعين عن الدراسة، وذلك بمساعدة فريق صغير من المتعاونين معه في نفس الحي ضمن تجربة شاقة ومحفوفة بالصعوبات بلغت حد المخاطر الشخصية.

الإطار البيداغوجي الذي حمل واحتضن هذه المغامرة الميدانية وأمّن لها بعض التسهيلات كان المنظمة الدولية غير الحكومية “أندا” (المحيط والتنمية في العالم العربي) و“فضاء 21” التابع لها في حي التضامن الذي شارك شبابه في الحراك الشعبي الذي أسقط نظام الحكم سنة 2011.

ويقول البغدادي عون إنه انطلق في هذه التجربة كمنشط مسرحي أي كمشرف على النشاطات المسرحية في المنطقة، وبمهام متعددة دفعته إلى الاعتقاد بإمكانية قيام مادة التربية المسرحية بدور مغاير لمهماتها في المدرسة أي مهمة الإدماج الاجتماعي للشباب في حي شعبي. وتركزت التجربة على المعايشة الذاتية لشرائح مستهدفة من النشاط المسرحي.

وترتبط المهمة بتوظيف تقنيات التربية المسرحية في الوقاية والإدماج الاجتماعيين للأطفال والشباب التلاميذ والمنقطعين، وصولا إلى الشباب من ذوي الصعوبات.

الغاية كانت ترمي إلى السؤال عن أي مدى يمكن لعلم الاجتماع النفسي أن يستفيد من مناهج وآليات التربية المسرحية، والعكس صحيح أيضا، ضمن علاقة تفاعلية لا تأمن لنظريات مسبقة، بل تمضي نحو الاكتشاف في حقل ملغوم بالاكتشافات على مختلف مفاجآتها وتناقضاتها.

واضح أن هذه التجربة قد نزعت عنها مهمتها التربوية والتعليمية في بعدها الأول داخل أسوار المدرسة، لتلامس الفضاء الاجتماعي الأرحب وتطمح في المساهمة بدور تنموي واسع النطاق ومتشعب الآليات.

البغدادي عون اهتم بشريحة الشباب الذين يعانون من صعوبات في الاندماج

يصبح مفهوم المسرح داخل هذه التجربة التي اعتمدت أسلوب الورشة وتعدد المشاركات والإسهامات أشمل وأعمق من كونه فنا فرجويا لا يحيد عن مهمتَي الترفيه والتثقيف بل أخذ بعدا شموليا يطمح إلى المساهمة في إعداد مجتمع واع بواجباته وحقوقه.

النزول إلى الواقع

ليس الأمر هنا تعويلا على التربية المسرحية كوسيلة إيضاح داخل منهج بيداغوجي، وإنما بوصفها آلية من آليات التغيير الاجتماعي وزرع مفاهيم جديدة حول النظرة إلى الفرد والمجموعة داخل الدولة والمجتمع.

مثل هذه الدراسة الميدانية التفاعلية بنتائجها الفعلية واستنتاجاتها النظرية، تمهد لفتح الطريق أمام غيرها من التجارب في العالم العربي الذي ما زال يكتفي بتهويمات نظرية قادمة إليه من العالم الغربي، ولا تشبه نسيجه الاجتماعي والثقافي، ولا هي حتى ذات علاقة بنخبه السياسية المعتمدة على المنطق التحشيد والتجنيد والغوغاء المجتمعية.

استفاد هذا الباحث المسرحي التونسي من تجارب أوروبية مماثلة في نزول المسرح من عليائه نحو العمق الشعبي وملامسة الواقع عبر تجارب حية ونابضة كما فعل جان بيار رينغار وروجيه دلديم صاحب كتاب “ذاكرة المتفرج الشاب” الشهير، والذي طبع فيه جيلا كاملا من المسرحيين الميدانيين، وحتى رواد المسرح التفاعلي، وقد انطلق مورينو في طرحه للبسيكودراما في مفاهيم الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عن تيار الوعي، ومن أبحاث عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد في التحليل النفسي ومن تجربة المسرح العفوي التي قام بها مورينو نفسه، كما حاول أن يسير على نهجه البغدادي عون، ولكن في ظروف صعبة وإمكانيات شحيحة.

وفي هذا السياق وجد الباحثون المسرحيون التونسيون في كتاب “التربية المسرحية والإدماج الاجتماعي” أن البغدادي عون لم يكتف بالجانب النظري وبالتجارب الغربية بل نزل إلى الميدان “نزل إلى الأحياء المتمردة المهمشة وتحمل فيها الأمرّين، في سبيل إنجاز هذا العمل، من طرف متمردين قبل أن يعرفوه ويحترموا ما يقوم به ونبل الرسالة التي يؤديها”.

وأدرك صاحب هذه التجربة المتميزة، قبل الولوج في مشروعه السوسيو تربوي أن الأزمة تتعلق بداية بالسياسات غير المتوازنة التي رسمتها حكومات ما بعد الاستقلال للبلاد، والتي أفرزت تباينات طبقية واجتماعية من شأنها أن تنذر بكوارث عديدة ترقد كالجمر تحت الرماد.

وبسبب هذا التشخيص الصائب والمبكر، كان على عون أن يختار “حي التضامن” كنموذج نافر للتناقضات الاجتماعية الناجمة عن سياسات خاطئة، ويعمل فيه معول بحثه الميداني مراهنا على التربية المسرحية كمقاربة لواقع شديد التعقيدات. وهو التربة الخصبة والمثمرة لفن يتغذى من التناقضات منذ مؤسسيه الأوائل في بلاد الإغريق.

تعميق الإحساس بالقيم الوطنية كفيل بالتصدي للمشكلات الاجتماعية، لكن هذا لا يتأتى إلا عبر ماكينة وعي وآليات تربوية صعبة التحقيق، لكنها ممكنة عبر المثابرة ودوام الإيمان بما يمكن أن يحققه المسرح ومناهج إيصاله إلى فئة الشباب.

“التربية المسرحية والإدماج الاجتماعي” ليس مجرد كتاب نظري يلوك ما سبق أو يعيد اجترار تجارب ميدانية أجنبية أو يستنبت ثمرة في غير تربتها، بل تجربة جديرة بالوقوف عندها، المثابرة في تكرارها وتعزيزها، وكذلك نشرها في بلاد عربية أخرى.

 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش