كلوشارات” باريس يستعرضون نفيهم الذاتي الدائم في عمل مسرحي / أبو بكر العيادي

 

 

 

 

عن كتاب “الغرقى، مع كلوشارات باريس” لعالم الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي البلجيكي باتريك دوكليرك، أعدّ المخرج إيمانويل ميريو مسرحية بالعنوان الأصلي “الغرقى”، حمل فيها المتفرج إلى عالم حاضر غائب، يراه الباريسيون كل يوم ولا يملكون لتغييره حيلة.

يشاهد زائرُ باريس قوسَ النصر وبرجَ إيفل ومتحفَ اللوفر وشارعَ الشنزيليزي ومقاهي سان جرمان بإرادته، ويشاهد كلوشاراتها غصبا عنه، فهم أيضا من معالم عاصمة الأنوار، يصادفهم في منعطفات الشوارع، وعلى مقاعد الحدائق العامة، وعلى أرصفة مترو الأنفاق، بأسمالهم البالية، وأكياسهم المهترئة، وقواريرهم البلاستيكية، وروائحهم الكريهة، وقذارتهم التي تثير الاشمئزاز.

اختلف المؤرخون في أصل التسمية “كلوشار” (clochard)، فريق يعتقد أن أصلها من اللاتينية  cloppicare بمعنى يمشي جارّا رجليه، ومنها (claudire) أي عَرجَ في مشيته. فريق ثانٍ يرى أنها متأتية من لاتينية العصر الوسيط (clocca) ومنها الفرنسية (cloche) ناقوس، وأن عبارة كلوشار ألصقت بالمحتاجين الذين يسمح لهم بأخذ ما لم يقع بيعه من أغذية، حينما تقرع الأجراس معلنة عن نهاية أسواق باريس.

بينما يعتقد فريق ثالث أن أصلها يعود إلى القرن الثالث الميلادي حين كان كهنة كاتدرائية باريس يعتمدون على بؤساء يَقبلون بقرع الأجراس العظيمة مقابل شيء من الطعام والنبيذ. وأيا كان الأصل، فهي لم تتّخذ معناها الحالي إلّا في أواخر القرن العشرين.

ولما صارت تلك العبارة وصمة عار، فقد لطّفها المشرّع ووسائل الإعلام بعبارة “فاقد السّكن القارّ” (sans domicile fixe)، لأن غياب المأوى هو السّمة التي يشترك فيها الجميع، مثلما يشتركون في الخروج تماما من الدورة الاجتماعية، يعيشون في عالم خاص بهم وحدهم، بعد أن فقدوا كل صلة بالمجتمع، وبعالم الشغل، ودخلوا في عزلة يقاومونها بمعاقرة الكحول آناء الليل وأطراف النهار، يبحثون فيها عن النسيان والسلوان، فلا يلقون غير دمار ذاتي، حتى النهاية الفاجعة.

إيمانويل ميريو لا يبغي من وراء عمله استدرار عطف الجمهور، بل يطرح القضية من وجهة نظر فلسفية، ليبيّن مدى هشاشة الفرد

للوقوف على مكونات هذه الفئة وطبيعة عيشها ونفسية أفرادها والأسباب التي رمتهم خارج المجتمع، قضى البلجيكي باتريك دوكليرك خمس عشرة سنة في متابعتهم عن كثب، وربط الصلة بهم، والإنصات إلى مشاكلهم ومحاولة علاج بعض من قبلوا الخروج من ذلك الوضع، فدوّن ما استخلصه من تلك التجربة في كتاب “الغرقى”.

وقال في مقدمته “الرائحة هي التي سوف أتذكرها طويلا، رائحة لاذعة، مقزّزة، تستبد بحنجرتك، وتضمّخ ثيابك، رائحة ما بين الفخذين، وآباط نتنة، وأقدام متقيّحة لم تخلع عنها أحذيتها طيلة أسابيع. اقتفيت آثار كلوشارات باريس، في الشارع، في المترو، في مراكز الإيواء، في المستشفيات. ساعدت في علاجهم، وخفّفت آلام بعضهم، ولكني على يقين أني لم أشفِ أيًّا منهم. كرهتهم في أغلب الأوقات، فهم يزفرون القذارة والخمر الرديئة، مثلما يزفرون الكره والحقد والحسد. يسرقون بعضهم بعضا، ويُرْهبون أضعفهم، ويغتصبون نساءهم. ولكن لم يكن ثمة غير الكره. لذلك قضيت زمنا في متابعتهم وملاحظتهم والاستماع إليهم. ولذلك أيضا تركتهم الآن، وإن اشتقت إليهم في بعض الأوقات. تتزاحم الذكريات، والموتى والأحياء، والأحياء الأموات، وكل من صادفت طريقي طريقه، لتبادل كلمة، أو ضمادة، أو قرص، أو وجبة ساخنة”.

ومن هذه التجربة، استوحى إيمانويل ميريو مسرحيته “الغرقى”، لينقل إلى المسرح الحكايات المهملة لأولئك الذين لا يساوون شيئا في نظر المجتمع، ويحاول أن ينفذ إلى حقيقة تلك الكائنات المحطمة، في تجربة إنسانية وفنية. وقد اختار أن يجعل الكاتب نفسه راويا يسرد ما عاش، وشاهدا يتحدّث عن حياته مع المنسيّين والغرقى والمُعدمين.

مسرحية "الغرقى"

في عتمة ليل لا ينتهي، يطلع راو، هو عالم الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي الذي لم يستطع نسيان رحلته الغريبة لدى المُعدمين، أولئك الذين فقدوا كل شيء، ليرسم بورتريهات بعض من صادف، ويتوقّف عند ريمون، الشبيه بباك أحد أبطال “حلم في ليلة صيف” لشكسبير، وقد هدّته الحياة ومآسيها، وأتت الخمرة على ما بقي من إنسانيته، فبات واحدا من “كبار رحّالة الفراغ”، كما يقول الكاتب.

وسط ديكور يبدو فيه حطام سيارة يغطيها الرمل ولا يظهر منها غير السقف، ومركب شراعي ألقت به الأمواج على الساحل، وظلت تلحسه بألسنتها بين الحين والحين، يقف الممثل فرنسوا كوتريل حافي القدمين على كوم رمل تكدّست عليه الفضلات، ليتقمّص دور ريمون، ذلك الغريق الذي أرداه البرد قتيلا ذات مساء من أكتوبر 1989، ليعبّر عمّا أسماه دوكليرك “قوة الإقصاء المميتة”، لأن التشرّد ليس مجرّد مشكلة اجتماعية، فالكلوشار هو منفي بلغ حدّا لم يعد يستطيع معه أن يعيش بغير النفي الدائم عن ذاته، ومن ثَمّ لا جدوى في رأيه من الحديث الوهمي عن إعادة الإدماج، أو الأمل في عودة أولئك البشر إلى عيشة طبيعية.

وإيمانويل ميريو لا يبغي من وراء عمله استدرار عطف الجمهور، بل يطرح القضية من وجهة نظر فلسفية، ليبيّن مدى هشاشة الفرد، المهدّد دوما بمصير مشترك، ذلك الذي يذكرنا به ريمون الكلوشار حين يقول “ذات يوم، ستنطفئ شمسُنا، هذا أمر معلوم. أما أنا فأعتقد أن كل شيء يقع عليه نظري سوف يندثر”.

_____________

المصدر / العرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش