مسرحية خاطيني لأحمد رزاق- الرهان الفني للمسرح الشعبوي – محمد الأمين بحري

مسرحية خاطيني لأحمد رزاق- الرهان الفني للمسرح الشعبوي – محمد الأمين بحري*

دائما وفق خطوط درامية أربعة: المسرح الواقعي ذو البعد الشعبوي، ونوع التراجي كوميديا- وأسلوب السخرية السوداء– وفكرة: النقد التهكمي من السلطة، يطل علينا المخرج الجزائري أحمد رزاق، بمسرحيته الجديدة: “خاطيني” [إنتاج مسرح مستغانم 2020]. في نص مستلهم من صدى خطابات الشارع، يشتغل –كباقي أعماله السابقة- على ثنائية ضدية (الشعب/ السلطة). حيث تخضع جميع فنيات العرض وبنياته إلى شعارات ومقولات الشارع الجزائري. من أجل تحقيق فرجة يتجاوب فيها الجمهور مع شعارات شارعه المتمسرحة بشكل ساخر أمامه، فهل الفرجة تبرر الوسيلة، حين يكون انعكاس الشارع على الركح مباشراً؟

أولاً الإطار العام للعرض (الموضوع ومورفولوجيا العرض):

1– الموضوع:

بلا أية مفاجأة وكما هو موضوع المسرحيتين السابقتين: [طرشاقة-2016] و [كشرودة-2017].. يظهر الصراع الجدلي في مسرحية خاطيني بين طرفي ثنائية: المواطن والسلطة، وبينهما خطابات وشعارات وطنية تدعو إلى التمسك بالثورة فكراً وفعلاً، وتصحيح نهجها ومفهومها.

يمثل المواطن في هذه المسرحية: جميع أطياف الشعب الذي صار بكامله شيوخاً وعجائز، عدا الشاب الوحيد المتبقي في البلد الذي يسمى: “خاطيني” وهي كلمة عامية جزائرية تعني بالعربية الفصحى [لست أنا المعني]. ولمن يتذكر، فإن كلمة “خاطيني” قد تكررت كثيراً في مسرحية “طرشاقة” (المتأثرة بفكر الربيع العربي)، والتي تعتبر الظل الدرامي لهذا العرض في عدة زوايا. ولعل أبرزها: ثنائيات النور والظلام، الضوء(الوعي) الحقيقي، والضوء(الوعي) الزائف، شعارات الثورة الشعبية، ورهانات أعدائها… الخ.

وفق مسار تلك الثنائيات: تقدم هذه المسرحية لجمهورها منذ لوحتها الأولى فئتين متقابلتين من الشخصيات: الفئة الأولى تمثل الشعب؛ وتتكون من والدي الشاب “خاطيني“، وهما الشيخ: “ماشي هو” (أي ليس هو)، وزوجته العجوز “خالتي”، وصديقته، إيمان. أما فئة السلطة فيمثلها مجموعة شيوخ وعجائز، مصابون بأمراض مزمنة تعيقهم عن الكلام والحركة والتفكير، يمثلهم: رئيس الجمهورية، وزوجته صرهودة (كاتبة خطاباته)، ومستشاره، وقائد أركانه، والصحفية ممثلة جهازه الإعلامي، بالإضافة إلى وزيري المالية والشؤون الدينية.

يدور موضوع المسرحية بين الفئتين الشائختين الحاكمة والمحكومة، حول مصير الشاب خاطيني الشاب الوحيد المتبقي في وطن الشيوخ والعجائز، لكن هذا الشاب يريد الهجرة إلى أوربا ليلتحق ببقية الشباب الذين هاجروا لينيروا شوارع أوربا-كما تقول أم هذا الشاب، بينما تريد السلطة المنتهية الصلاحية إبقاءه بأية طريقة، رغم أنفه وأنف والديه، اللذين يريان فيه مستقبل البلاد. بعد أن شاخ كل من فيها.

يقرر الشاب “خاطيني” الهجرة مع صديقته إيمان، لكن إيمان في اللوحة ما قبل الأخيرة، تتشبث بالبقاء والنضال من أجل البلد الذي تريد، وبعد نقاش بسيط بينهما يقتنع الشاب بموقف صديقته إيمان، ويتنازل عن موقفه بكل سهولة، وبشكل غير مبرر، لنجده يرافقها في مسيرات الحراك في اللوحة الختامية، التي تنتهي بصرخة إيمان (خلاااااص) فيسقط العسكر من خلفها ويبقى قمع الضوء مسلطاً عليها.

2- مورفولوجيا العرض:

يتكون العرض من تسعة لوحات حلت محل الفصول. وقد توزعت فضاءات العرض على ثلاثة أمكنة: 1- منزل عائلة “خاطيني” (وأثاثه: تلفزيون، يبث الأخبار، وخزانة وصالون.)، 2- مكتب رئيس الجمهورية (وأثاثه مكتب وخلفه إطار صورته حين كان شاباً). 3-المقهى الشعبي: (وأثاثه تلفزيون وكراسي وطاولات قمار ومشروبات)، 4-الحمام (وهو حمام النساء وهو صورة خلفية للصراع من وجهة نظر فئة النساء في المجتمع، وتمثلهن الشخصيات النسوية في العرض: صرهودة زوجة الرئيس وكاتبة رسائله، وخالتي والدة الشاب خاطيني والصحفية، وصاحبة الحمام المتملقة للسلطة)، وللحمام وأناسه وأحاديثه رمزية خاصة تمثل الحديث الطويل الذي لا مخرج ولا نتيجة له في الثقافة الجزائرية. 5- الشارع، وهو فضاء المظاهرات الشعبية الذي تنتهي المسرحية على وقع الاعتقالات في ساحته.

ثانياً- جهاز العرض أو محرك العمل المسرحي.

  • نوعية الممثلين. وأسلوب الأداء

من حيث تشكيل الجهاز العرضي، تبرز نقطة القوة في هذا المسرحية هي نوعية الممثلين، التي تعتبر:

العامل الأول في تحقيق الهدف الفرجوي: حيث يحسب للمخرج اختيار التشكيلة التي ستغطي على جميع نقائص العرض (الخطاب الدراماتورجي خاصة)، من أمثال: بوحجر بودشيش(والد خاطيني)، وسميرة صحراوي(خالتي-أم خاطيني). وعيسى شواط(رئيس الجمهورية المعاق)، وربيع أوجاوت(قائد أركان الجيش)، وصبرينة قريشي(صرهودة، زوجة رئيس الجمهورية وكاتبة خطاباته)، حورية بهلول (فيفي- الصحفية)، فؤاد بن دبابة(بلحملاوي- مستشار الرئيس)، ويبدو أن عامل الخبرة لدى هؤلاء الممثلين هو ما أسهم بشكل حاسم في تحقيق هدف الفرجة في هذا العرض.

والعامل الثاني في تحقيق فرجة العرض هو الأسلوب الكاريكاتوري سواء في اللعب الجسماني (انحناء ومشية وأصوات الممثلين الدالة على الشيخوخة وانتهاء الصلاحية)، أو في ألبسة الممثلين وهي أسمال بالية ممزقة لدى الشخصيات الشعبية، وملابس كلاسيكية متحفية قديمة لممثلي السلطة. وتجسدت اللوحات الكاريكاتورية أيضاً في ديكور الفضاءات (التلفزيون والخزانة القديمين في البيت- المكتب المتهالك والعتيق لرئيس الجمهورية- الحمام الشعبي التقليدي – المقهى الشعبي البائس). أما العامل الذي حرك كل تلك اللوحات الكاريكاتورية هو أداء الممثلين المترنحين جميعهم في حركاتهم، عدا الشابين: (خاطيني وصديقته إيمان)، وسط اصفرار الإنارة التي صبغت الأسلوب الكاريكاتوري المضحك، بلون مَرَضي، شاحب، ومأساوي، مزج كوميدية العرض بإضافات حسية تراجيدية، ومنح الطابع التراجي-كوميدي للرعض دلالته المكتملة.

والعامل الثالث نحو هدف الفرجة الذي حققه هذا الفريق المخضرم من الممثلين، هو اللعب الجماعي الذي أزاح فمهوم البطل الشامل في هذا العرض، حيث لم نشاهد بروز أي بطل بمفرده من بين هذه الشخصيات، بل برزت ككتلة متوحدة، انمحى فيها أي دور للبطولة، حتى الشاب خاطيني الذي سميت المسرحية باسمه، نراه قد ذاب في اللعب الجماعي للفريق. وجدير بالإشارة أن تناغم اللعب الجماعي الذي يقضي على مفهوم البطل الوحيد، يمثل إحدى ميزات مسرح أحمد رزاق، ونقطة قوة طالما أكدها واختص بها في المسرح الجزائري.

2- التأثيث السينوغرافي (الديكور/الإنارة/ الألبسة)

وإن كان هناك دور يستحق أن نمنحه البطولة من بين عناصر هذا العرض (وفق هذه القراءة) فهو التأثيث السينوغرافي، حيث تميزت كل لوحة من لوحات العرض (لوحات بدل الفصول) بأثاثها الخاص، عبر الفضاءات المكانية الخمسة التي أشرنا إليها سابقاً، بالإضافة إلى توزيع عناصر السينوغرافيا على الخشبة، الذي يكون أفقيَّ الانتشارِ، حينما يكون موضوع المشهد خاصاً بالسلطة وخطابها، ويكون عمودياً صاعداً من عمق الخشبة حين يكون موضوع المشهد: الشعب وصوته. ولهذا التوازن بين الأفقي والعمودي في التأثيث دلالات فنية (رمزية) بليغة ترفد الخطاب وتقوي موقف الممثلين وتسهل أداء أدوارهم في كل فصل. على الرغم من الجاهزية النمطية لهذه الأدوار.

وفي كلا البعدين، الأفقي والعمودي لعبت الإنارة الدور الرمزي الأبرز، وهي إنارة شاملة وباهتة في جميع اللوحات، ماعدا المشهد الأخير من اللوحة الأخيرة في هذا العرض التي تخلى فيها المخرج عن الإنارة شاملة الثابتة والانتشارية على كامل الخشبة (التي وظفها في كل اللوحات)، واستعمل في آخر مشاهده الإضاءة التقنية المترددة بتناوب سريع وخاطف بين الأبيض والأسود، أثناء موجة الاعتقالات والصراع بين المتظاهرين والعسكر، لتنتهي بإضاءة قمعية (douche)، على شخصية إيمان حبيبة الشاب “خاطيني” في صرخة مدوية (خلاااااص). تضع نقطة ختام العرض.

ونشير إلى أن نوع الإنارة الثابتة والانتشارية الشاملة للخشبة بلون أصفر أرجواني، كانت فاعلة جداً وبليغة الدلالة في إشارتها إلى حالة القدم والشيخوخة، خاصة بانعكاسها على ملابس (أسمال) الممثلين الشيوخ، ومتناغمة مع التأثيث الفضائي (أثاث البيت-الخزانة والتلفاز القديم. ومكتب الرئيس، والحمام، والمقهى)، وكلها فضاءات بدت بفضل هذا اللون في الإنارة فضاءات رثة ومتهالكة منتهية الصلاحية، مثلها مثل الشخصيات الشائخة للممثلين، ومن جهة ثانية كان خطاب الإنارة وظيفياً جداً ومتناغماً، مع الخطاب اللفظي لبعض الشخصيات حول أزمة إنارة الوطن، الذي انطفأ مع رحيل الشباب المهاجر لينير أوربا، تاركاً مصابيح البلد مطفأة لا تجد من ينيرها.

وعلينا أن نشير بأن هذا النوع من الإنارة (الانتشارية-الشاملة- باللون الأصفر الأرجواني) شبيه جداً، بل يكاد يكون هو نفسه أسلوب إنارة مسرحية “طرشاقة-2016” للمخرج نفسه، التي نعود إليها هنا في هذا التماثل، والتي كان موضوعها متماثلاُ بدوره مع موضوع هذا المسرحية: من صراع بين سلطة عسكرية وشعب عاطفي مستضعف، وقضية الثورة وإشعالها، وانتقاد حب السلطة والتمسك بها إلى آخر رمق، لدى المتسلطين على الشعب. لتطغى على المسرحيتين أزمة الإنارة التي لا تحسم إلا بإشعال شرارة الثورة الشعبية على الاستبداد.

ولعل المميز في مسرحيتي “طرشاقة” و”خاطيني“، هو أن أزمة النور المشتركة والوظيفية، التي لعبت دوراُ مزدوجاً سواء من حيث الشكل البنائي أو من خلال الموضوع الضمني، حيث كان جوهر الخطاب في موضوع المسرحيتين هو أزمة إنارة وتنوير، القائمة على ضعف الإنارة وتناغمها مع الموضوع العرضين وخطاب شخصياتهما.

وبفضل هذه التقنية في الإنارة صارت جميع خطابات الجهاز العرضي، (خطاب الموضوع، خطاب الإنارة، خطب السينوغرافيا من إضاءة وتأثيث وألبسة، خطاب الهيئة الكاريكاتورية للممثلين) متواشجة مع الخطاب اللفظي للشخصيات، ومع أسلوبها الأدائي الكاريكاتوري، مما منح الخطاب الشامل للعرض بعداً بوليفونياً (متعدد الأصوات) وقيمة دلالية بليغة ومضاعفة.

ورغم نقاط الإشعاع والقوة في جهاز العرض وعناصره الشكلية، وطريقة إدارتها الإخراجية، الهادفة إلى تحقيق الفرجة في تلقي هذا العرض، فقد اعترته بالمقابل نقاط ضعف واهتزاز عديدة وجبت الإشارة إليها والاستفهام حولها.

ثالثاً- إشكالية المسرح الشعبوي: هل الفرجة تبرر الوسيلة؟

بما أننا أما معرض يقوم في خلفيته الدراماتورجية على عدم إنتاج الخطاب، وإنما على ترديد مقولات الشارع من أجل إحداث تناغمه معه لتحقيق غايته الفرجوية. فقد ترتب على هذا التوجه عدة ملاحظات. لعل أبرزها.

*- إشكالية الخطاب الدراماتروجي: أمام الأسلوب المباشر في الطرح، والتصريح المعلن بالمواقف، ونوعية الخطاب الشعبوي الذي يتمرجع به نص المسرحية، يبدو الخطاب ككل مستهلك مسبقاً في ذهن المتفرج، ومعروف المرجع التيماتولوجي (الموضوعي)، وهو يحول الخطاب الدراماتورجي إلى استلهام لوحات العرض وكلام الممثلين من الشارع، حيث شهدنا عبارات مثل (كليتو لبلاد) وهي نقل حرفي لأحد شعارات الشارع في الحراك الشعبي الجزائري)، بالإضافة إلى عبارة (الحمَّام حمَّامنا ونديروا راينا)، المنقولة عن الشعار الحراكي الجزائري (لبلاد بلادنا ونديروا راينا). فحينما يصبح الخطاب المسرحي ترديداً لمقولات الشارع وشعاراته التي صارت نمطية لدى الجميع، فإن هذا الترديد المحاكاتي يقضي على مفهوم الدراماتورجياً بمعناها الإنتاجي للخطاب، لتحل محلها صيغ مثل: الترديد والمحاكاة والاستلهام، مما يُقال ويحدث في الشارع. وبما أن المتفرج يشاهد محاكاة وترديد شعاراته داخل العرض، فإن ما ينتظره هنا؛ هو أسلوب السخرية والإضحاك، (الذي عكسه الأسلوب الكاريكاتوري للعرض)، أي إن الفرجة هنا مبنية على التجاوب مع الجمهور إضحاكه، بالسخرية السوداء، على طريقة السكاتش النقدي، وليس على إنتاج خطاب ركحي يصنع وقائعه وينتج خطابه ذاتياً. مما يجعلنا أمام فعل مسرحة للوحات الشارع وإعادة تدوير خطاباته على الخشبة بطريقة لوحات قصيرة ساخرة وكاريكاتورية سكاتشية في أسلوبها الإضحاكي.

*-نمطية الأدوار: جميع أدوار الممثلين في هذه المسرحية نمطية وجاهزة ومكتملة مسبقاً. ولا مفاجأة في مواقفها المعلنة أو خطاب شخصياتها المنتظر من طرف الجمهور بمجرد أن يعرف أنه هذه الشخصية تمثل السلطة والأخرى تمثل الشعب، وتزداد نمطية هذه الأدوار وضحالتها أكثر؛ حين يكون الجمهور على دراية مسبقة بأسلوب وخطاب ومواقف أحمد رزاق في مسرحياته السابقة (خاصة طرشاقة وكشرودة). فتبدو المسرحية من حيث خطاب الشخصيات، ذات الأدوار النمطية منقسمة على ثنائية ضدية (سلطة/شعب). فشخصيات كل جهة متماثلة تماماً مع الجهة التي تمثلها. (السلطة أو الشعب) وما تبقى للجمهور أن ينتظره سوى الأسلوب التهكمي الساخر في خطابي الفئتين المتصارعتين، بل تبدو الأدوار والخطابات مكررة أكثر من مرة ليس فقط بالنسبة إلى الأعمال السابقة المتماثلة في الرؤية والموقف، لمسرح أحمد رزاق، بل في الواقع الذي يعيشه الجمهور والشعب في واقعه، كون المسرحية واقعية جداً في مواقفها وخطاباتها وشعراتها وأدوار ممثليها. بالإضافة إلى كون نصها مستلهم من خطاب الشارع نفسه الذي يشاهد جمهوره هذا العرض.

*- عدم تطور الشخصيات: لا وجود لشخصيات متطورة ونامية بنمو الوعي المسرحي في هذا العرض، وإنما هناك شخصيات مكتملة ومغلقة الأدوار، بمعنى صارت منتهية الدور مسبقاً في ذهن المتفرج، الذي يحمل عنها صورة سابقة في واقعه ويعرف حدود حركتها ونوعية خطابها والدور المُعاد مسبقاً (standard)، الذي تكرره أمامه بطريقة ساخرة. حتى أن تغير موقف شخصية الشاب خاطيني، لا يعد تطوراً خارجياً بل تحول داخلي. مدفوع بتغير موقف صديقته إيمان، وليس نابعاً من قناعته. وهو ليس تطوراُ من حيث بناء الشخصية الفكرية، كونه بقي معارضاً كفرد شعبي للنظام الذي كان يعارضه بالرحيل فصار يعارضه بالبقاء ومواصلة الاحتجاج. بإيعاز من صديقته. أي إنه بقي في فئة انتمائه الأولى، وغيّر فقط طريقة نظرته للأمور. لذا يمكن وصف شخصية خاطيني بكونها متغيرة داخلياً وليست متطورة.

*– التهميش الضمني للشخصية العنوانية: ما ميز الشخصية التي تحمل المسرحية اسمها كعنوان (ما يجعل منها شخصية رئيسية بشكل آلي)، وهي شخصية الشاب: “خاطيني“، هو كونها من أضعف الأدوار وأكثرها هامشية سلبية وتبعية لغيرها على الركح، وهذا الضعف ليس في أداء الممثل الذي لعب الدور، بل من حيث الدور الهامشي الذي منحه له المخرج، ومن حيث الموقف الدرامي الذي أسند له نصياً، إذ على الرغم من أن شخصية “خاطيني” كانت موضوع حديث بقية الشخصيات، إلا أنها عكس تك الصورة كانت سلبية جداً على الركح، ولا موقف لها. إذ سرعان ما يتراجع هذا الشاب عن قرار الهجرة بمجرد مخالفة صديقته إيمان له، حتى أن عملية اعتقاله في اللوحة الأخيرة، للعرض تبدو غير مبررة، حيث كانت شخصية صديقته إيمان رغم هامشية دورها، أقوى منه بكثير بخصوص الثبات على المواقف، والصمود وعلو الصوت في الخطاب، وبث الروح في شخصية “خاطيني” التابعة. التي كانت صاحبة رد فعل أكثر من كونها صاحبة موقف وفعل. وهو ما جعل صورة هذا الشاب -من حيث من حيث دوره الهامشي- تهدم وتناقض تلك الصورة التي حاولت جميع الشخصيات منحها له، وحاول المخرج إعطاءها نوعاً من المركزية حين وضع اسمها كعنوان للمسرحية، شكلياً، ثم قام بتهميشها أدائياً، لتظهر شخصية هذا الشاب، خاملة وتابعة لغيرها، ومترددة وبلا قرار إلى أن تأتي صديقته إيمان وتبث فيه الروح فينهض ويتبعها. ثم تقوم السلطة العسكرية بسجن الشخصية الضعيفة والتابعة “خاطيني” وتُبقي على الشخصية القوية “إيمان” التي تنهي بصرختها العرض فتسقط به سلطة العسكر المنتهية الصلاحية. لذلك فإن وضع اسم الشخصية الهامشية والتابعة في مضمون العرض، كعنوان رئيسي للمسرحية. يحمل نوعاً من المفارقة الساخرة بين شكل العرض ومضمونه.

*- الأداء الحوراي – وتقنية السكاتش

لم يكن الحوار في هذا العرض صراعياً أفقياً بين الأطراف المتناقضة التي تشكل قوام الثنائية المتضادة في هذا العرض (أي الشعب والسلطة)، إلا في مناسبة واحدة حينما تجادلت زوجة الرئيس (صرهودة)، مع أم الشاب خاطيني، وخيرتها بين تسليم ابنها أو غلق الحمام. في الفصل الرابع. وفيما عدا هذا المشهد، كان حوار الشعب مع السلطة على مستوى الحوار متناغماً.

إذ كان مركز الحوار الصراعي عمودياُ داخل كل طرف من أطراف تلك الثنائية، أي بين الشخصيات التي تمثل الشعب: (بين خاطيني وصديقته، وبين أمه وأبيه؟)، وكذا بين شخصيات الكتلة المقابلة التي تمثل السلطة (بين الرئيس وقائد أركانه، بين زوجة الرئيس ومستشاره، وبين المستشار وقائد الأركان).

وهو الشكل الحواري الذي قضى على مفهوم الصدام الحواري بين الكتلتين الكبيرتين والنقيضتين في العرض، وهو موقف مفارقاتي: جعل الحوار بين ممثلي الكتلتين النقيضتين متناغماً، بينما الحوار داخل كل فئة صدامياً. وهنا نفهم بأن هذا الخيار في بناء الحوار كان مرتكزاً على صنع الفرجة الكوميدية السلسة أكثر من تركيزه على صناعة الحوار الدرامي والفكري بين الأطراف التي يفترض أنها متصارعة، وهذه التقنية الأفقية المفارقاتية، هي ماتبرر نوعية الحوار الكوميدي الخاص بالسكاتش الذي استعمل فيه المخرج تقنية اللوحات (بدل الفصول) القائمة على الإضحاك والفرجة الآنية، أكثر منه عمودياً بين سلطتين صداميتين كما يبدو في الظاهر. لأن الحوار السكاتشي تلائمه اللوحات الكوميدية القصيرة، وليست الفصول المسرحية الطويلة. ولهذا جاء العرض في تسعة لوحات كوميدية قصيرة من الحوار الأفقي المعتمد على المفارقة الساخرة، الجالبة للفرجة والإضحاك. وليس المفارقة الضدية القائمة على الحوار الصدامي بين قطبي الصراع الفعليين، وهو خيار فني جعل جهاز العرض بأسره أقرب -فنياً- للسكاتش منه إلى المسرح.

أما نقطة الصدام الوحيدة فكانت في آخر مشهد، حيث بدت النهاية مفروضة بإيقاع مختلف ومفاجئ (brusquement) من المُخرج، وليست تابعة لمنطق العرض والإيقاع السلس لحواراته وأحداثه. وقد سجلنا سابقاً بأنها نهاية نابية ومختلفة سينوغرافياً (وخاصة في الإضاءة)، وحتى خطابياً وأدائياً، عن بقية اللوحات. ومع ذلك فإن صدام كتلتي الشعب والسلطة في المشهد الأخير، يدعم من زاوية بنائية التركيب التراجي-كوميدي للعرض في شكله العام.

*– الحدث الدرامي: بما أن الحدث جاهز ومعروف المرجع والمواقف منذ بداية العرض، فإن هذه المسرحية لم تصنع أحداثها التي هي محاكاة كاريكاتورية للواقع المرجعي الذي تعيد خطابه، بل يتمثل إنجازها الأساسي في الفرجة دون الحدث وهذا ما يميز المسرح التحريضي. الذي تنتهي غايته عند تحقيق الفرجة بكل الوسائل حتى وإن ضحى بصنع الحدث. الذي كان محاكاةً وليس إنجازاً في هذا العرض.

وعموماً فإن نقاط قوة هذا العرض، وإيجابية تلقيه وفرجته(الشعبوية) التي أشرنا إليها، كانت نتيجة إدارة المخرج لعناصره وبنيات عرضه، كما أن نقاط الضعف (الفنية) الأخيرة كانت نتيجة خياراته الإخراجية والنصية كونه كاتب النص أو بالأحرى مستلهم النص من الواقع، ونتيجة أيضاً لأسلوبه المباشر جداً ومواقفه الإيديولوجية المعلنة التي وضعها مباشرة على الخشبة، حيث تحولت في كثير من مقاطع المسرحية إلى شعارات سياسية، ولافتات نضالية، وخطابات ثورية، التي لا فرق بينها وبين البيانات السياسية المعارضة. في الصحف أو في مواقع التواصل الاجتماعي. مما غلّب على العمل صفة المسرحة (للظواهر الشارعية والسياسية) أكثر من صفة المسرح ببعده الفني والفكري والجمالي. الذي يعكس الواقع بلغة المسرح دون حاجة إلى ترديد لغة الواقع لجمهور هذا الواقع. ولعل هذا المظهر من تبعات الأسلوب الواقعي والشعبوي الذي يبقى للمخرج كامل الحرية في اختياره وحصد إيجابياته وتحمل سلبياته.

*- أ.د/ محمد الأمين بحري- ناقد وأكاديمي، جامعة بسكرة- الجزائر.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش