«مارا صاد» .. حين يكون الجسد لغة/د.عواطف نعيم

مسرحية «مارا صاد» لبيتر فايس من الاعمال المسرحية التي تستهوي العديد من المخرجين لاخراجها وقراءتها كل بطريقته وعلى وفق رؤاه وتفسيراته وكانت مصدر اغراء وجذبا للعديد من طلبة الاخراج المسرحي في المعاهد والكليات الفنية للتصدي لاخراجها والتعامل معها بحثا وتجسيدا بعد تحليل وتفكيك لما بين سطورها من أسرار ومعان ، وأشهد أني شاهدت أكثر من عرض لها بأساليب وطرق متعددة وجريئة في التناول والمعالجة لاساتذة وطلبة ، وأشهد أن بعضا من هذه المشاهدات كانت مبعث دهشة ومتعة لي وأن البعض الاخر كان مصدر صدمة وأسفا ، لكني في كل الاحوال كنت وما زلت أؤمن بأن المسرح فكر ومعرفة ومسؤولية تشكل رؤى وفهما لما يتم اختياره في العمل الفني وأساليب الاشتغال لتقديمه ومنحه قدرة الحضور والاثارة ، وقد كان حضوري لمشاهدة هذا العرض في مدينة السليمانية وبطريق الصدفة وأنا ألبي دعوة لحضور فعاليات مهرجان كلاووز الثقافي مصدر غبطة لي ، كنت أمام مجموعة من الشباب يقودهم مخرج من أعمارهم يقدمون «مارا صاد» ناطقة باللغة الكردية ، كانت القاعة باردة لكن فضاء المسرح يشع بالدفء حين بدأ الشباب لعبتهم مع بيتر فايس ومارا صاد وعرض مسرحي يعلن عن الثورة والتمرد والاستبداد والحلم بكسر هيمنة الفرد الواحد والصوت الواحد والاله الواحد الذي يجعل من الجميع أتباعا ومريدين وخانعين ، كيف يتحول الثائر الى دكتاتور ؟ كيف تتحول الثورة الى سجن للحالمين بالحرية ؟ انه عالم من الجنون والاحداث تدور في مصح عقلي وفي الحقيقة أن لا عاقل صاح وسط هذا العالم المضطرب، فالعدوى قابلة للانتشار والرغبة في اغتيال الفكر المخالف تتشظى في اكثر من شخصية لتصبح مهيمنة ومقبولة من قبل الجميع ، تذوب ارادة الفرد العاقل في ارادة الجمع المنفلت ويصبح الجنون ذريعة للقتل والازاحة ، هنا كان الجسد حاضرا بقوة الموسيقى والغناء الرقص والايماءة تتناغم بعناية ومرونة مع تصارع الارادات والرغبات ، تشعر وأنت تراقب فضاء الخشبة أن الممثلين يؤدون أدوارهم بتماه ودربة وتناسق يدل على فترة تمارين طويلة ومنتظمة وواعية لتقديم عرض مسرحي الجميع فيه أبطال كل حسب ما أنيط به من دور وما أوكل له من مهمة ، كان التنافس جليا ومفعما بالحدة والمهارة لكنه تنافس ايجابي يدعم فيه الممثلون بعضهم بعضا ، الحركة وتوزيع المستويات التي اشتغل عليها المخرج تحيلنا الى عقلية اخراجية متميزة في التركيب والتكوين المشهدي.

واشتغل المخرج على اربعة مستويات حركية متنامية ومتداخلة كما تتداخل الالات الموسيقية لتمنح الاداء زخما ودراماتيكية ، في أعلى الشرفة وعند المقصلة وحول حافة الحوض المائي وخلف الستارة الجانبية الشفيفة لعنبر المرضى ، الملفت في العرض ليس فقط أولئك الشباب المسرحي الماهر والمتلون والمتحول في كاركترات درامية جسدية وصوتية وشعورية مرنة ومتغيرة بل أولئك الفتيات المؤديات والعازفات بمهارة  درامية مؤثرة وهن يتنقلن في التقمص والتماهي ما بين حالة درامية واخرى يرقصن ويثرن ويعشقن بجرأة وجمال ، طال العرض لساعتين دون استراحة أو توقف لالتقاط الانفاس بل تصاعد في الايقاع وتواتر في نبض العرض وصولا الى لحظة الاغتيال وقد تكون اليد المنفذة للطعن هي واحدة وظاهرة بالفعل المادي المعلن للقتل الا أن القاتل الحقيقي هي الفكرة التي غرست في عقول الجمع المحيط بالقاتل والقتيل ، هناك اسقاط واضح على كل ما يدور حولنا وبيننا من صراع واقتتال ومصالح ولكنا قد لا ننفذ الازاحة والتصفية  بل نبث الافكار ونغرسها كي تنبت فعلا نحن نبغيه ونسعى اليه من خلال الاخرالذي يتحول الى أداة تأتمر بأمرنا المبثوث والمضمر عبر طروحاتنا وفتاوينا، في العرض المسرحي «مارا صاد» ثمة كفاءة ومهارة ودربة ، أن يتواصل الشباب لساعتين متواصلتين بذات الزخم والتجدد وبذات التماهي والانتماء لهو أمر جميل ومتميز ، كانت الاجساد داخل فضاء العرض في تشكيلاتها وحركتها تشكل لغة تبث كوداتها وتعلن عن معانيها لم تكن فضفاضة وسائبة بل محددة وموجهة لايصال علامة وتأكيدها ولم يكن التركيب المشهدي غافلا عن التصوير التحليلي للحالات النفسية وتقلباتها بل جاء منسجما ومتتابعا ، مجموعة الانساق في الضوء واللون والموسيقى والزي تفاعلت مع بعضها في تكاملية بصرية دالة ومعبرة ، لم يكن ثمة ثرثرة تفيض عن الحاجة بل اشتغال مدروس حتى في لحظات الصمت والتأمل التي تخللت نسيج العرض في مشهدياته المتوالية  ، «مارا صاد» عرض مسرحي بهي لشباب عراقي منحنا دفئا وأكد أن لغة الجسد وسيلة تواصل تمتلك قدرة  الفهم والتعبير عبر البصري الغني بالدلالة والمعنى .

المصدر/ الصباح

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *