لماذا نحتاج المسرح؟!/ هايل علي المذابي

لماذا نحتاج المسرح؟

هايل علي المذابي

تختص الفنون بصناعة الفًرجَة، والفرجة تمثيل، والتمثيل نسخة تعبيرية عن الأصل، وهي تمثيل عن الواقع، ومجتمع اليوم بوصفه مجتمعاً للفرجة: يُفضِّل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التّمثيل على الواقع، المظهر على الوجود. وما هو مقدّس عنده ليس أكثر من الوهم، أمّا ما هو مدنّس فهو الحقيقة عينها. إنّه يقدّس الوهم على حساب تدنيس الحقيقة. بهذا المعنى تَكون: الفرجة مجتمعاً، والمجتمع فرجة.

يقول جون بودريار: “لذّة الماء على الشّفاه أكثر إمتاعاً مِن شربه”، ويقول أيضا: “لقد تلاشى العالم الواقعيّ، وحلّت محلّه علامات الواقعيّ، التي تمنح الوهم للعالم الحقيقيّ” ويقول جي دوبو في كتابه “مجتمع الفرجة”: “ليست الفرجة مجرّد نتاج لتقنيات التعميم الواسع للصُّور فحسب، بل هي رؤية فِعلية للعالم”.

ولن نبالغ إذا قلنا بأن هذا القول له رائحة نظرية أرسطو في كتابه فن الشعر “الكاترزيس” أو “التطهير” ليكون السؤال: ما الذي ذهب بأرسطو إلى أن يحمل مفهوم التطهير تلك الغايات التي نشدها المفهوم من حيث قيام النوع الأدبي والفني بتطهير المجتمع؟ ولماذا كان هنالك ثقة لدى أرسطو حينما أكد على ان للفنون تلك القدرة على القيام بعملية التطهير في جمهور المتلقين؟.

ثمة روابط خفية بين الفرجة وقوانينها وبين نظرية التطهير لدى أرسطو وبين نظرية القرابة عند عالم الانثروبولوجيا كلود لفي شتراوس وبين نظرية النماذج العليا والأنماط البدئية عند عالم النفس جوستاف كارل يونج وبين مسألة صناعة الوعي المنوطة بالمسرح والأشكال الفنية؟

يشير مصطلح التطهير أو التنفيس الوجداني “The theory of catharsis” في سياق فلسفة أرسطو إلى “التنفيس عن العواطف وتهذيبها عن طريق الفن أو أي تغير حاد في العاطفة يؤول إلى تطهير النفس من العواطف الزائدة وتجددها وإصلاحها” (1)، أي أن الفنون تقوم على المبادئ وما يعمل على تهذيب النفس وهنا يمكن النظر إلى قول يوجينا باريا: “إن المسارح لا تتشابه في عروضها وإنما في مبادئها” فيقودنا ذلك إلى قول كلود ليفي شتراوس: ” إذا كانت الأساطير تعيد التفكير فيما بينها، فالمسارح أيضا”. وطالما نحن نتحدث عن قوالب فنية فلا خلاف على أن ما ينطبق على المسرح هو ذاته ما ينطبق على بقية الفنون، فهي أشكال فرجوية والمسرح أبو الفنون.

وعن نظرية القرابة لكلود لفي شتراوس فهي كما أسلفت قائمة على التشابه في القيم والمبادئ الإنسانية بين الحضارات وهو ما يسميه يونج بالأنماط البدئية أو النماذج العليا وهذه القيم الثابتة هي ما وقر في وعي أرسطو سلفا وحمله على صياغة نظرية التطهير من أجل الحفاظ على ثباتها في مكونات المجتمع البنيوية القيمية الثابتة كما يفترض بها.

وفكرة “النماذج العليا” لعالم النفس النرويجي “كارل يونج” والتي عرّفها تعريفاً شاملاً في مقال له بعنوان “في العلاقة بين التحليل النفسي والفن الشعريّ” نشره في كتاب “إسهامات في علم النفس التحليليّ”. وهي حسب تعريفه صور ابتدائية لا شعورية أو “رواسب نفسية لتجارب ابتدائية لا شعورية، لا تحصى” شارك فيها الأسلاف في عصور بدائية، وقد وُرِثت في أنسجة الدماغ، بطريقةٍ ما؛ فهي -إذن- نماذج أساسية قديمة لتجربة إنسانية مركزية؛ هذه النماذج العليا تقع في جذور كل شعر (أو كل فن آخر) ذي ميزة عاطفية خاصة. وهي تلتقي أو بالأصح كانت مبعث نظرية القرابة لدى عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود لفي شتراوس، والمقارنة تقول أن شتراوس عندما قارن علاقات القرابة والأساطير عند (البدائيين) لاحظ أنه ينتهي دائما إلى نفس المشكل الأساسي، فاستخلص أن وراء التشابه بين الثقافات توجد وحدة نفسية للإنسانية، إذ هنالك عناصر أساسية مشتركة للإنسانية، و الحضارات لا تقوم إلا بتركيب هذه العناصر المشتركة في تشكيلات مختلفة. ولذلك نلاحظ بين الثقافات البعيدة عن بعضها البعض تشابهات وهي تشابهات لا تُعزى بالضرورة إلى التواصل بين الحضارات خاصة إذا ما تبيّنا وجود حضارات يصعب تصور الاتصال فيما بينها نظرا لانزوائها وتباعدها عن بعضها البعض مثلما هو شأن حضارة (الأنكا) في (البيرو) و(الداهومي) في (افريقيا)(2).

من هنا نجد ان الصورة الفرجوية التي يقدمها الثالوث الفني وهي نسخة عن الأصل لا تحتوي بالضرورة على مظهر التّمييز العُنصُريّ الذي كما يبدو من خلال نظريتي كارل يونج وشتراوس أنه مظهر مكتسب مع تقادم الزمن في حين أن تلك النماذج العليا التي تم نقلها في سياق اللامتغيرات البنيوية تعبر عن قيم إنسانية ومبادئ سامية لذلك فإن كنا سنقدم صورة فرجوية فالأحرى بنا اختيار ما يحقق القيم الإنسانية كالعدل والمساواة والحرية ومناهضة التّمييز العُنصُريّ ووو إلخ وإذا اردنا أن نحقق تلك القيم فكل ما علينا هو الترويج لها من خلال هذا المسرح وكل الفنون بلا استثناء.. فالعنصرية، مثلاً، بدأت قبل نشوء الدولة المدنية فكانت في شكل عنصرية الإنسان لقومه وزعاماته وقادته من أجل ضمان الحصول على الحقوق في ظل هذا التعنصر، وبعد أن قامت الدولة المدنية تخففت البشرية من سخائم تلك العنصرية فصار الولاء للدولة حيث ضمنت هذه الأخيرة للمواطنين حقوقهم وألزمتهم بالمثل بواجباتهم بالتساوي وبدون الحاجة إلى انتصار عنصري من أي نوع لكن بالمقابل نشأت عنصريات جديدة.

دور الفرجة المسرحية والفنية عموما إذن هو إعادة الإنسانية إلى نقطة الصفر في اللامتغيرات البنيوية أي نقطة الإنطلاق عندما كانت كل القيم الإنسانية في حالة ثبات في المكونات البنيوية للمجتمع، وتحديد ما هو مكتسب من قيم سيئة مثل قيمة التّمييز العُنصُريّ التي تمثل قيمة سوداء، وإلغاءها وإعادة تثبيت ما هو أصيل من تلك القيم كقيمة المساواة والعدالة الاجتماعية والتي اهتزت وتأثرت بسبب التحولات والتغيرات الحاصلة بسبب المعطيات الجديدة مع كل عصر وهو دور حيوي جوهري يتعاظم في كل مرحلة من حيث أن المتلقي يتقبل هذه الاستعادة التي يؤديها هذا الثالوث الفني على اعتبار أنه يقدم صورة عن الأصل وهي مقبولة لدى المتلقي فالمباشرة فجة تصدم المتلقي والواقع يعتبر حالة من المباشرة مهما كان الأسلوب الذي يتجلى أمام المتلقي إلا أنه يعتبر مباشرا لذلك فالدور هنا في المقاومة الثقافية وصناعة الوعي وصياغة الوجدان الاجتماعي هو دور فرجوي أزلي تقدمه الصورة من خلال قوالب الفنون والفرجة والذي يتلقاه المتلقي دائما ويتفاعل معه بإيجابية.

إن هذا فنون الفرجة ليست مجرد وعاء فني فحسب إنها تجسيد للثقافة ذاتها، تجسيد لمنظومة هائلة من مكونات اللامتغيرات البنيوية في المجتمع الذي نعيش فيه، تجسيد للقيم المترسبة في الذهنية الحضارية التي تشكلت في الوعي الجمعي عبر آلاف السنين، ورغم هذه البساطة في المعنى الذي يحمله ويشير إليه مدلول الوعاء الفني لقوالب الفرجة والوظيفة التي يشغرها، إلا أن تجسيد هذه الوظيفة بكافة أبعادها يجب أن يتداخل شرح تحقيقه مع مسائل الرياضيات الهندسية ومعادلات الفيزياء، بل ويجب الاحتكام في تجسيده إلى مقولة السبب والنتيجة. المسائل الحسابية تحمل المنطق البديهي، الذي استساغته الذهنية البشرية عبر مراحل زمنية متعددة ومازالت تفعل ذلك حتى هذه اللحظة، والذي يمكن تجريده بساطته من وظيفته الحسابية واسقاطه على عالم الفنون ووظائفها وعلى رأسها هذا المسرح، فالقول واحد زائد واحد يكون ناتجه اثنان وهي من المسلمات البديهية وبالمثل فإن تحقيق الوظيفة القيمية في هذا الثالوث الفني يكون بذات المنطق الحسابي وأعني بلفظة “تحقيق” تمكين المعنى القيمي الذي تهدف إليه أبعاد المادة الفنية في الذهنية المتلقية، فالكلمات واللون والضوء والملابس والديكور والأصوات في هذا الثالوث الفني هي عبارة عن أرقام حسابية عندما نجمعها مع بعضها تعطينا ناتجا دلاليا لقيمة إنسانية نهدف من وراء عملنا الفني إلى تمكينها في ذهن المتلقي.

وتحقيق هذه المعادلات في عالم الفن يقتضي وجود كاتب وفنان ومخرج حقيقي مثقف إلى أعلى حد وإن كان ثمة قصور في براعة كاتب النص فإن الفنان والمخرج يسدان الثغور ويعالجان القصور، إنها خبرة البنّاء الطويلة في رصف الحجر وتشييد المداميك وإعلاء البنيان، فقوالب الفرجة الفنية بمجموع مكوناتها كلمات وألوان وأضواء وديكور وملابس ووجوه وأصوات وشخصيات وقصة وحبكة درامية هي أحجار في يد الفنان يبني بها ما يشاء في ذهنية المتلقي إما قصورا وإما خرائب وأطلال، إما حضارة وإنسان وإما تخلفا وجهلا وضلال.

 

هامش:

([1]) أنظر: كتاب “فن الشعر” لأرسطو أو نظرية الكاترزيس أو التطهير Berndtson, Arthur (1975). Art, Expression, and Beauty. Krieger. صفحة 235. ISBN 9780882752174. 08. The theory of catharsis has a.

(2) هايل علي المذابي، قراءة مقارنة في النماذج العليا لـ«يونغ» والتنوع الثقافي لدى شتراوس، صحيفة القدس العربي، 25/8/2016م.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش