قراءة استعادية لنصوص مسرحية العادلون إنموذجا

كان مخالفا بامتياز …سابحا ضد التيار برفضه تمجيد الماركسية ومساندة الانظمة الشيوعية، كما فعلت الاغلبية الساحقة من المثقفين الفرنسيين، بما في ذلك صديقه اللدود(جان بول سارتر) لذلك حورب(البير كامو) (1913-1960) بشدة واتهم بـ(الرجعية) واعتبر مثقفا (مستقيلا من النضال الحقيقي للانسانية) على حد تعبير احد خصومه. 

والحقيقة ان صاحب ((الانسان المتمرد)) و((الغريب)) و((اسطورة سيزيف)) كان دائما في قلب احداث عصره الكبيرة والصغيرة، عنها كتب وعلق، ومنها استوحى افكاره ورؤاه الفلسفية وايضا موضوعات اعماله القصصية والروائية التي عكست الشر والعنف اللذين تميز بهما القرن العشرين… ووجدت في عبارة الصحفي الفرنسي الشهير(جان دانيال) تعبير عن حقيقة صدقية هذه الكتابات وواقعيتها واجرائيتها اذ يقول: ((ان كتابات كامو تفرض نفسها علينا راهنا كما لو انها ضوء ساطع لا يرحم)) ..

ومن هنا وانا أقرأ واتقارب من مسرحية العادلون التي قدمت لاول مرة في فرنسا عام1949 اجد صدى لهذه المقولات في ضوء قراءة(كامو) الاستشرافية لمفاهيم الارهاب والعدالة والعنف في ضوء مجموعة ارهابية تعمل لصالح احدى المنظمات, وتعد لعملية قتل الدوق الكبير لكن احد المنفذين يتفاجأ بوجود ابني اخي الدوق الصغيرين وهما جالسان بقربه في العربةـ يرتديان اجمل الازياء للذهاب مع عمهما لحفل مسرحي ـ يفشل المقاوم في رمي القنبلة على العربة القادمة التي مرت سريعا وهو يلاحقها بنظراته الخائفة!.. ليعود أدراجه الى المخبأ السري.. ليجد الارهابيين مصدومين لعدم سماعهم دوي الانفجار. 

فيبدأ الجدل(الكاموي) بين افراد المجموعة في ضرورة تنفيذ الواجب او تأجيله بين االعدالة والعاطفة.

تقع كفتا الصراع الدرامية(الجدلية) في هذا النص بين الشخصيات:-(كالييايف واستيبان ودورا واننكوف) والاربعة من الروس ، منظمتهم هي واحدة من تلك المنظمات الثورية الارهابية الروسية التي تكاثرت عند المنعطف الزمني بين القرنين التاسع عشر والعشرين، وتاريخيا فان هذه المنظمات كانت لا تجد امامها الا الارهاب وسيلة لمحاولتها الاستيلاء على السلطة والوصول الى ما تعتبره في ادبياتها(عدالة اجتماعية) وهي في ذلك وجدت نفسها مقصية بين مطرقة البوليس السياسي وسندان الاحزاب الاكثر(عقلانية) فلن تجد امامها الا ان تمعن في الارهاب .. وتذهب معه الى نهايتها السياسية والانسانية … 

يقع نص(كامو) في خمسة فصول  ضمن بناء جمالي (درامي/سردي) كلاسيكي اقرب للبناء والتقعيد الارسطي، فهو بنية دلالية على صعيد الشكل بنت عصرها وذوقها السائد المتساوق مع اطروحته الجدلية، التي تتمركز كليا على مرجعية فلسفية وجودية، فالانشغال التكنيكي لبنية السرد يكاد يكون منعدما بالمقارنة مع الانشغال بتوليد بؤر دلالية جدلية(سردية) تصل الى القارئ بوصفها ذات قيمة ايديولوجية(سياسية) ترتبط وقائعيا بلحظات تمرد المقاومة الجزائرية واعمالها الارهابية في الاربعينيات من القرن الماضي وكذلك المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الالماني(النازي) في التاريخ نفسها تقريبا, على صعيد (الاسقاط)، وتضع امامنا وامام تاريخها الشخصي- أي المسرحيةـ مساحة واسعة الان في التاويل والتوليد الدلالي بما يرتبط ووقائعنا المعاشة, والتصدي الحاسم على الصعيد الدرامي لمناقشة موضوعة الارهاب الطازجة طوال هذا الزمن، بفواعل الجدل الفلسفي التي يتفوق فيه كا مو على افضل ناثري عصره… فها هو(ستيبان) (الراديكالي) الفظ غليظ القلب ينهر(كالييايف) لانه كان عليه ان يرمي القنبلة حتى لو رأى عشرات الاطفال مبتسمين داخل العربة ….فيرد عليه

كالييايف  : انا أحب الذين يعيشون اليوم على الارض نفسها التي يعيش عليها، هولاء هم الذين احييهم، من اجلهم هم اكافح وارضى ان اموت، ولن اقوم بصفع وجوه اخوتي، من اجل مدينة بعيدة لست واثقا من وجودها.. ولن اضيف الى الظلم الحي ظلما من اجل عدالة ميتة ، يا اخواني اريد ان اتحدث اليكم بصراحة.. ان قتل الاطفال يتنافى مع الشرف، واذا حدث يوما وانا حي ، وكان على الثورة ان تجانب الشرف، فاني اتحول عنها.

ان الواجب الاخلاقي حتم على(كاالييايف) ان ينتصر للطبيعة والفطرة الانسانية على حساب واجب المنظمة.. وشرفيته الموهومة.. انه الصراع بين العدالة والحب بين الواجب والاخلاق بين الحياة والموت.. الذي تمظهر في ضوء قراءة كامو الواعية لمفاهيم عصره وما ينم عن ايمانه بالجمال ويقينه بانه اذا كان لابد من الاطاحة بحياة ، فان ذلك لا يبرره الا انتصار الحياة.

ان ما يجعل هذه المسرحية تحتل مكانتها المعروفة من مسرح كامو على الرغم من بعض اوجه الشبه التي قد نجدها بينها وبين مسرحية((الايدي القذرة)) لـ(جان بول سارتر) التي سبقتها في الاطار السياسي، هو انها تضع امام اعيننا شخصيات تنسى فرديتها في سبيل عمل جماعي كبير، وتصور لنا ما يختلج في نفوسهم ابلغ تصوير.

وقد تحايث المسرح العراقي مبكرا مع هذا النص الاشكالي عبر تقديمه من قبل الفرقة القومية للتمثيل وبقراءة للمخرج الراحل(جاسم العبودي) عام (1971) حيث ابقى على النص بفصوله الخمسة وراح ينحت شخصيات المسرحية بواقعية(ستانسلافسكية)، وطالما هو عرض شخصيات ومواقف اخذ(العبودي) يغني من التفسير والتحليل فيما يخص الشخصيات بابعادها الفنية التقليدية، ويطنب في ايجاد مرجعيات تاريخية لها على الصعيدين النفسي والاجتماعي وبما يتناسب مع ثقافته الموسوعية…للاسف… مر العرض مرور الكرام ولم يكتب عنه…. واجد سبب ذلك حسب زعمي ان العرض كان يتنافى مع متطلبات المرحلة الفكرية والايديولوجية والتي تفرضها  الاحزاب السياسية تلك الفترة.. حيث كانت(المقاومة) ومفاهيمها وقيمها ذلك الزمن تغزو الحياة السياسية والثقافية، والمد اليساري الجارف في الحياة الثقافية العراقية يمنع فحص هكذا عروض واستقراءها بوعي نقدي وجمالي لانها تتعارض مع ايديولوجيا المرحلة التي تنتصر للنظرة الاممية الواسعة من دون الاخذ بمتطلبات الواقع المحلي واشتراطاته!.

————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – سعد عزيز عبد الصاحب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *