“قراءات نقدية فى العروض المسرحية – نشر الوعى عبر القوى الناعمة”

    مازالت قضية نشر الوعى عبر القوى الناعمة هى الشغل الشاغل للناقدة المصرية السينمائية والمسرحية والأدبية د. نهاد إبراهيم. هذه القضية هى سر الأزمة الفكرية الشديدة التى تعيشها مصر فى اللحظة الراهنة. إنها القضية الخطيرة الى تظهر على السطح فى هذه الأيام، لكن المؤكد أنها ليست وليدة هذه السنوات القليلة، بل إن جذورها تضرب فى عمق الزمن طويلا بسبب سنوات عديدة من الركود الثقافى الشديد وتمييز فئة عديمة الموهبة فى الواقع الفنى الثقافى وفرضهم بالإكراه على الشعب المصرى مقابل تهميش أصحاب الموهبة والفكر الحقيقيين سنوات طالت راح ضحيتها الكثيرون وتراجع الفن على كافة المستويات.    

    من هنا أصدرت الناقدة والشاعرة والقصاصة والمترجمة د. نهاد إبراهيم فى عام 2016 “موسوعة النقد السينمائى – نشر الوعى عبر القوى الناعمة” (ستة أجزاء)، وتبعتها فى العام نفسه بكتاب  (الطبعة الثانية)، ليحتل هذا الأخير رقم اثنين وعشرين ضمن قائمة مؤلفاتها المتنوعة التى تشغل حيزا مرموقا فى مجموعة من أعرق مكتبات الجامعات الأمريكية على رأسها جامعة هارفارد. وقد صدرت الموسوعة ثم هذا الكتاب عن دار العلوم للنشر والتوزيع يفصل بينهما شهور قليلة حتى يحدثا الأثر المطلوب عندما يلاحظ القارىء النصف الثانى من العنوان المشترك بينهما. استكمالا لتحقيق الهدف فى نشر الوعى داخل المتلقى الإيجابى يضم هذا الكتاب مائة وستين مقالا فى النقد المسرحى لعروض مصرية وعربية وأجنبية كلاسيكية وتجريبية وراقصة وأوبريت وأوبرا وباليه. لكن هذا الرقم لا يتناسب مطلقا مع مجمل ما شاهدته الناقدة من العروض المسرحية، فقد كانت تكتب عن عرض واحد فقط من كل عشرة عروض مسرحية تقريبا لأن واحدا مهما كان يستحق والباقى لا يستحق على الإطلاق ولا يليق به إلا التجاهل التام لعدم تلويث عقلية وذوق المتلقى محب الفن عامة والمسرح على وجه الخصوص!

    تؤكد المؤلفة على صعوبة فن المسرح ومتعته الشديدة أيضا وتقول فى مقدمة الكتاب: “المسرح الجميل حياة جميلة.. ظللت أبحث عنها طوال حياتى ليس بسبب تخصصى كناقدة، بل بصفتى إنسانة تحب المسرح من كل قلبها. هذه المقالات هى مجموع ما كتبته فى مختلف الصحف والمجلات على مدى سنوات طويلة أعرف بدايتها ولا أعرف نهايتها. سنوات استثمرت نعمة موهبة النقد التى منحنى الله إياها وأصقلتها بالدراسة. كتبت ما كتبت بقدر ما شاهدت بكل حيادية حيث لا أملك إلا اسمى الذى أحافظ عليه كحفاظى على حياتى؛ لأنه بالفعل كل حياتى.”  

    لكن يبدو أن حال المسرح أسوأ من حال السينما بكثير من وجهة نظرها، حتى أن المؤلفة استخلصت النتائج التى عاشتها طوال حياتها من خلال هذه الكلمات: “لقد فاض بى الكيل من مشاهدة عروض مسرحية سخيفه ضعيفه مهلهلة مسطحة، ومللت بشدة طوفان أرباع الموهوبين أو بمعنى أدق اللاموهوبين على الإطلاق الذين يستعيرون مجرد فكرة ولا يعرفون كيف يعالجونها مسرحيا ولا علاقة لهم بفن التأليف المسرحى من الأساس، لكنهم مع خالص الأسف يفرضون أنفسهم على هذا العالم الإبداعى الراقى بحجة التأليف والابتكار والإبداع من وجهة نظرهم القاصرة المزيفة. حقيقة الأمر التى يعلمها الجميع أنهم يحتمون بمناصبهم وأقلامهم كصحافيين ويضمون خانة مؤلف مسرحى إلى أنفسهم بالإكراه من باب الوجاهة الاجتماعية والتلميع الإعلامى الذى يعشقونه! وهو ما يمنحهم سلطة أكثر للتحكم فى رقاب البشر الأبرياء من عباد الله المبدعين الحقيقيين، وكل ذنب ضحاياهم الذين يستحقون عليه الإبادة أنهم موهوبون بحق ومبدعون بحق ويكشفونهم دون قصد ليس إلا!!!”

    لقد صدق الكاتب الأمريكى فرانك كلارك حين قال “السبب فى انتشار الجهل أن من يملكونه متحمسون جدا لنشره!!”

    برغم صعوبة فن المسرح وعالمه النقدى ومصطلحاته ومدارسه، فإن الناقدة حرصت دائما على عدم الانغلاق على منهج نقدى بعينه طالما يتناسب مع طبيعة العرض بعيدا عن الجمود الفكرى والتعصب البغيض لمنهج بذاته تعصبا أشد من أصحاب المنهج أنفسهم. كما أنها وفى كل مقال لا تمل أبدا من شرح أى مصطلح مهما كان بسيطا أو معقدا محل استخدامه مباشرة لتسهيل المهمة على القارىء وتصدير أكبر قدر من متعة فن النقد إليه، خاصة أنها تستخدم دائما لغة السهل الممتنع فى الكتابة بعيدا عن التقعر والاستعراض وادعاء الغموض وتعالى الثقافة. وطالما أنها وضعت منذ بدايتها هدف تشكيل الوعى عبر القوى الناعمة للمتلقى عموما نصب عينيها لتخرجه من حيز السلبية إلى الإيجابية ليشاركها الرأى بأسانيد علمية دون محاولة إقناعه بأى شىء على الإطلاق، كان لزاما عليها أن تخاطب كل مستويات القراء بأبسط لغة ممكنة بعيدا عن الاقتصار على المتخصصين وحدهم؛ لأنهم مجرد شريجة مستهدفة وليسوا كل العينة المستهدفة كما يحلو للبعض أن يميز نفسه فى الإرسال أو الاستقبال بوصفهم النخبة العالمة ببواطن الأمور، وهم فى الحقيقة لا يرون أبعد من خيالهم، هذا إذا كان ظلهم مازال يتحمل مصاحبتهم من فرط الجهل والغرور والعجرفة!    

    لكى يتضح المقصود من الكلمات السابقة عمليا نستعين بمثال واحد من هذا الكتاب ومقتطفات من مقال النقد المسرحى للعرض السويدى “هاملت.. إذا كان هناك وقت” الذى يُعتبر واحدا من أفضل وأمتع عروض المهرجان التجريبى الذى شاهدها جمهور المسرح المحظوظ جدا، وقلما يمر علينا عرض مسرحى ممتع داخل أو خارج المهرجان لسنوات طويلة. تقول الناقدة: “لم يكن العرض السويدى “هاملت.. إذا كان هناك وقت” لفرقة هالاند المسرحية يحقق هذه النشوة الداخلية، لولا أنه يتمتع بمنظومة مدهشة من الفن الراقى التى دفعتنا للبحث عن أسرار إبداع هذا العرض. تعتمد منظومة هذا العرض ببساطة شديدة على توظيف أقصى استفادة ممكنة لمفهوم المهرج الحقيقى من كافة النواحى. نحن أمام أربعة ممثلين، ثلاثة رجال وفتاة يضعون المساحيق الكوميدية الطابع على وجوههم، مع تحديد منطقتى العين والفم بخطوط داكنة ثقيلة، ليبدو وكأنهم يرتدون أقنعة مرسومة تترك الحرية للعينين لتلهو بتعبيراتها وإبداعاتها مع المتلقى كيفما يحلو لها. وينقلنا فعل اللهو هذا للوقوف أمام جوهر هذا العرض، حيث نجح المهرجون الأربعة وبجدارة منذ اللحظة الأولى فى إعلان خطابهم الفكرى الفنى فى هذا العرض، الذى يلعبون فيه مع المتلقى لعبة مسلية مثيرة على كافة المستويات والتأويلات. ونجدهم يقدمون فى البداية كطبيعة مهنة المهرج مجموعة من الفقرات الفردية المرحة لا تتعلق بمسرحية هاملت ذاتها، لكن المخرج وظف هذه الافتتاحية المسرحية المرحة لتحقيق أكثر من هدف متزامن.. أولا – تعريف المتلقى بطبيعة العرض القائم على المهرجين، وفى نفس الوقت التعريف ثم الاقتراب من منهج وتكنيك هؤلاء المهرجين الأربعة بأصباغهم وملابسهم ذات الألوان المختلفة وفقراتهم الفكاهية، كل على حدة أو مجتمعين ونبرات صوتهم المختلفة المضحكة المرنة جدا فى تغييراتها ومناطق توظيفها، والاعتماد على الأداء الحركى الجسدى المبالغ فيه فى خليط من فن الكوميديا دى لارتى والفارس بتنويعات مختلفة. أثناء هذه الفقرات قام المهرجون بالإعلان عن أهم أركان تكنيك هذا العرض، وهو فوضوية الارتجال اللحظى الذى يعتمد على خلق وتوظيف الموقف الحالى، أيا كان ومدى قدرة المهرجين على التفاعل معه على المستوى الفردى والجمعى كفريق عمل واحد، يتمتع بقدر شديد من التميز من التناغم والهارمونى والتواصل الذهنى الفنى الحركى. على سبيل المثال دخل أحد المتفرجين متأخرا عن العرض بخمس دقائق، فما كان منهم إلا أن توقفوا جميعا عن الأداء فى لحظة واحدة متفق عليها تماما، ودخلوا معه فى حوار قصير ماكر يتأكدون منه أنه الآن لا يدرك ما يجرى، وبالتالى هرولوا جميعا فى خطوة واحدة خلف الستارة القماش ذات الفتحات المربعة الصغيرة كنوافذ وفتحة أخرى متوسطة كباب للعبور، وهو الديكور الوحيد الذى سيصاحبنا طوال العرض دون إضافات. بعيدا عن كافة المصطلحات النقدية العلمية نشكر القائمين على هذا العرض؛ لأنهم منحونا الفرصة لنتذوق فى ليلة مسرحية مبهجة حلاوة فن المسرح الجميل..”

————————————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  جورنال مصر

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *