في مسرحية “كوبيليا “من حكايات هوفمان /ضحى عبد الرؤوف المل

 

 

 

 

 

المصدر /المدى/ محمد سامي موقع الخشبة

تتميز الرقصات في مسرحية ” كوبيليا “( Coppélia) بالقدرة على ترجمة النص وفق الانماط الكلاسيكية  الدقيقة في تقنياتها والمتقنة فعلياً في ممارسة حركات الباليه المعقّدة كدمى جامدة،  ترتبط بروحية الموسيقى التي تنساب مع الاجساد،  وتمنحها الشكل المنساب مع القفزات التعبيرية الالتفافية التي تمزج بين جماد الدمية،  وحركة الموسيقى بتفاصيلها الدقيقة والعميقة سمعياً. اذ تنقل الدمية للعين حركة الموسيقى من خلال حركة الجسد بجمالية تنسجم مع تمثيل العجوزكوبيليوس،  وقدرته على منح الدمية وصفتها السحرية التي تعالج قصة خيالية تنقلنا الى الواقع الاقوى أو المبني على مسرح حركي لقصص هزلية تشكل الأسس المتعلقة بالانسان واشكالية تحقيق احلامه،  وإن بسمات غرائبية في معظمها.  لتشكل مسرحية كوبيليا واحدة من أهم المسرحيات الحركية التي جمعت بنسيجها الفني بين الباليه الروسي والباليه الفرنسي في تقديم هذه الدراما الحركية بمعانيها الادبية التي ترتقي عبر الانفعالات التعبيرية المشحونة بالموسيقى، وببقية الفنون الأخرى من دون أن ننسى الكوريغرافيا المتميزة بكل عناصرها في هذه المسرحية المرتبطة بحكايات هوفمان الغرائبية.
مسرحية تسمو بالحواس وتصقلها.  إذ يبدأ دكتور كوبيليوس بتحضير وصفاته السحرية على المسرح بعد أن يتأمل دميته كوبيليا الجالسة على كرسي دون حراك،  وكأنها تنتظر لمسة الخيال من الكاتب.  ليمنحها المخرج بعد ذلك دورها في تحريك الحكاية على المسرح بلعبة ذكاء حاد من كاتب النص،  وكأنه يجسّد مرحلة كتابة كوبيليا بتفاصيلها الدقيقة عبر اسقاطات شعبية بين فرانز وسوانيلدا التي تقاوم الدمية . لينتصر الحب في الانسان الذي تحركه دوافعه وانسانيته.  ليواجه صعوبات الحياة بضحكة أو فرحة أو ألم أو حزن،  ويتشبث بيقينه ليكتشف دكتور كوبيليوس هشاشة تحويله الدمية الى انسان تاركاً لعلامات الاستفهام الكثير من الضحك المبطن، المستند على المحاكاة الحركية  التي تستند الى التعبير المحسوس سمعي وبصري،  بتجانس بين الواقع والحلم، وما تجسده كوبيليا من معايير فلسفية وروحية تكتمل مع الانسان فقط.  لتبقى رمزية الدمية ضمن كل ما يحركه الانسان،  ولا يستطيع منحه الصفات الانسانية الحقيقية التي نستكمل بها الحياة.
في المشهد الأول يكمل كوبيليوس صنع الدمية،  ويضع بين يديها كتاباً ويجلسها قرب النافذة.  لتخرجه من عزلته التي جعلته يتمنى أن يمنحها الحياة التي يعيشها اهالي القرية في وئام وسلام،  ضمن لوحات راقصة تتميز بالليونة التعبيرية في تمثيل ايحائي راقص يحاول من خلاله كوبيليوس عدّة تجارب.  ليمنح كوبيليا الحياة بينما فرانز ينشغل بكوبيليا عن سوانيلدا بمواقف هزلية مضحكة. تدخل الفتيات خلسة الى منزله بينما هو في الحانة.  ليكتشفن أن كوبيليا دمية فيهربن وتبقى سوانيلدا في الخزانة مع الدمية  ويمسك الطبيب بالشاب، ويحاول استخراج الحياة منه ليمنحها لكوبيليا التي احبها وحاول غرس الصفات الانسانية فيها لتمحو عزلته.  الا أن سوانيلدا استطاعت ابراز الحقيقة لفرانز،  وإنه لم يكتشف حقيقة الدمية إلا بعد أن لعبت سوانيلدا دورها، فيشعر بحقيقة الحب نحوها وأنه وقع في ملابسات عاطفية فتنته فيها دمية لا حياة فيها.
ليس كل ما يُرى هو الحقيقة، ولا كل ما نتمناه هو نافع لنا قد تأخذنا الانفعالات الى أبعد ما يمكن أن يصل اليه الوجدان،  ولكن بالعقل وحده نستطيع التفكر واستنتاج الحلول.  لنصل الى نتيجة مرضية في الحياة اضافة الى القناعة والرضى، هذا ما تعالجه مسرحية كوبيليا اضافة الى اظهار قدرة الانسان على الخلق والابداع.  لا سيما مع دكتور كوبيليوس صانع الدمى،  وهو يمثل كل صاحب حرفة أو تطلع ما نحو الابداع بكل مراحله الفنية أي الادبي والموسيقي وغير ذلك.  لتكون لغة الجمال انعكاسية لكآبة الانسان الذي يحاول الخروج من قوقعة عزلته،  فهذا الانزياح في المسرحية يجعل المشاهد في حالة من الترقب تفرضه الموسيقى المؤثرة في النفس. لدقة مفردتها الموسيقية،  ولنغماتها الانسيابية ضمن نظام تصويري حسّي يضفي نوعاً من التحفيز على استرداد الحقائق الخادعة للإنسان في لحظات ما من حياته،  وخصوصاً عندما يكبر ويبدأ الاحساس بالوحدة،  وهذا ما دفع دكتور كوبيليوس الى اختراع الدمية،  كما تمنى أن تكون المرأة في داخله بعمر الشباب،  فينشغل بها وما تمثله  سوانيلدا بواقعيتها تجعلنا نبعد صورة المرأة الدمية عن الواقع ونفصلها عن الحياة قبل مؤثرات الحدث ومفارقاته الهزلية، التي تميزت بها الحركة الموضوعية في اظهار قيمة خديعة دكتور كوبيليوس للشاب فرانز الذي فتنته كوبيليا، ومن ثم تزوج من سوانيلدا بعد نهاية منطقية لهذه القصة الغرائبية التي غزلها هوفمان ووضع موسيقاها اوفينباخ.  لنراها على مسرح برمينغهام في حزيران 2017 بكوريغرافيا لماريوس بيتيبا واينريكو سيشيتي وبيتر ورايت ومن تصميم بيترفارمر موسيقى ليو ديليب.  فهل تموت الأعمال الخالدة وهي ما زالت تحيا على المسارح العالمية؟
المسرحية تم عرضها للمرة الأولى عام 1870 وما زالت دور الباليه العالمية تتنافس في تحديثها وتقديمها برقي فني، تصاحبه مقاييس المسرح الحديث من كوريغرافيا واضواء وازياء،  وقدرة على مواكبة الحركة الحسيّة بكامل تفاصيلها.  لتصل الى الجمهور بأبهى ما يمكن من جمال فني يتخطى بمراحله خطوات كل من الرافصين المحترفين في تطلعاتهم نحو إبراز جمالية مسرح الباليه المرتبط بالتأليف الموسيقي والايماء الحركي وما الى ذلك.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *