(عين) نورية.. بين ال ظلمة والضوء – العراق

تأليف وإخراج: ليلى محمد

تمثيل: هناء محمد

تجبهنا نافذة في الاعالي ، للمرأة الام ، التي تلهج بحوار من نحيب ، وحشرجات ، وبؤس ، وثمة في الأسفل خمسة انصاب لقبور ، تتلون بين زرقة الحياة ، وحمرة الموت ، وفي الأسفل مستطيل مغطى بالبياض تنزرع فيه وعلى جنباته ما يوحي بانه دكة للموتى ، يغتسلون فيها للمرة الأخيرة وهم يودعون الحياة ، على خلفية موسيقى مضطربة ، مقلقة ، يسدل كفن ابيض ، معادل موضوعي لثنائية الموت مع العباءة السوداء ، التي ترهن الحياة بالعتمة بشكل متعامد من فوق حيث يسكن القدر ممن يرشحهم الملاك القابض على مصائر البشر هؤلاء في قوائم متسلسلة ، بيد القتلة .

المرأة التي يغادرها زوجها الى الغربة تخاف على وليدها من الاعيب الزمان الغادر فلاتدري كيف تتصرف وهي ترى الموت مجسما بابعاد ثلاثة ! تراه شاخصا ، تحاوره وتتخاصم معه ، تارة تخرجه من الباب اليمين ليدخل اليها من الباب الشمال ، تطرده حينا ، ويمحقها ، ويذلها ، ويستعبدها في احايين أخرى كثيرة ، تلاحقه ويلاحقها من أعلى الدكة المريعة التي تتوسط خشبة المسرح ، الى المستوى الأسفل ، تتكوم لائذه في حماه ، او تنسحب متقهقرة ، تجرجر اقدام خيبتها ، واذيال المهانة بعمر بات يتدحرج باتجاه هوة القبر الفاغر اشداقه بصلافة باردة ، محايدة ، تجاه عذابات امثالها من البشر الفانين وما كابدوه من مشقة .مونودراما هذه المرأة المسماة (نورية) تمثيل (هناء محمد) ، التي افتقفت في أدائها ، تداعيات المؤلفة ، والمخرجة (ليلى محمد) لترسم لنا صورة الغربة والتوحد لمرأة مهمشة ، تدخل عالم المقابر ، لعل الموت يمهلها رخصة الضيافة في بيته ، ويترك لها فرصة حياتية من بضعة امتار زمنية ، ثم يطولها كديدنة ليقذفها في عالم الموت السرمدي ، ويقطعها من سرة الحياة حركت المخرجة ، عوالم العرض ، بتناقضات حدية مستقطبة ، اذا تظهر مجموعة تعبيرية ، ترقص مبتهجة بزواج هذه السيدة ، حين شبابها وبعد مرور برهة زمنية ، يدب الموت في مفاصل هذه الطريقة السالكة بين برزخ الفرح ، وبرزخ الحزن ، بين خفة الحياة وثقل موازين الموت .. ولات حين مفر ! من هذا الكابوس ، الذي تشتق منه المرأة كل مفرداتها حزنا واستلابها ومسيرتها الجنائزية .في أطراف وسط المسرح ، تظهر شاشة قماش ابيض ثلاثية في كل جهة ، تقوم بها ظلال ثلاث شخصيات رجالية من هذا الجانب ونسائية من الجانب الاخر وهم يتراقصون بهلع ، وانطفاء واشتعال تبعا لتخاطف الأضواء عليهم ، ليدعموا من (تداعيات ) الممثلة ، وهي تستذكر محطات حياتها ، وتقوم بسردها ، في محاولة لمعادلة غياب الآخر المادي فوق الخشبة باقتناص خياله ، او شبحه او ظله لتشعرنا بالصراع الدرامي (المفترض  (ذلك لان بنية (المونودراما) لا تقوى على تأسيس موضوعي للشخصيات والاحداث ، وتنامي الصراع المحتدم بين هذه الأطراف والعناصر في اطر زمانية ومكانية ملموسة ، ومتضافرة بوحدتها أليس من المفارقة بمكان ، ان تتحدى امرأة بروحها الغنائية الساحرة ، شرور سدنة الموت بأحابيلهم النثرية الخشنة ، وغلظة عقولهم الاجرامية ، وتبجحهم باغتصاب البراءة ، وخنق الطفولة ، وحرق اجنحة الفراشات واحالة ألوان الحياة ، الزاهية الى رماد وعتمة .

تدرك المرأة العراقية ربما اكثر من قرينها الرجل ، وذلك السلك الدموي الذي يختص بأكثر من قناع لتمويه تسلله للغدر والبطش.قد تكون لغريزة الامومة ، وحفظ الحياة ، وروح الانثى المصطبغة بالعطر والالق ، قد يكون لها اثراً واضحاً في ترسيم خارطة الحياة ، بوجه خاطفيها من سدنة الموت ، الذين لاهم لديهم سوى تغييب حضور المرأة ، والافتئات على كرامتها وتشويه مشروعها وتسفيهه ، والتعامل معها وكأنها كائن مختلف ، قد وفر – على حين غرة – الى الأرض من مجرات مجهولة برزت في العرض قدرة المخرجة في تسيير حركة الممثلة ورسم (ميزانسينات) لها . تعبر عن فحوى المنظور البصري ، الذي أجاد تشكيله السينوغرافي (عصام جواد) باطار متوازن تحركت على رقصته العمودية ، والافقية ، البطلة ، وهي تسرد علينا عذاباتها مع الرجل الاب ، وحرصها على الرجل الابن ، وصراعها مع ملاك الموت بصيغة المخاطب الذكوري ، البادي القسوة والعنت ، والموغل بإرهاب حاضر المرآة ومستقبلها ، بمثل ما تركته الذاكرة في روحها من مكابدات وحسرات وكدمات .

حملت (هناء محمد) ما عبأ مواقف ، وحوارات ، لوحدها اذ لم يشاطرها ممثل (شريك) على تقسيم الكلام ، وبادرت هي (لافتراض) هذا الشريك الاخر ، بتصوير سحنته ، وهيأته ، وصوته وايقاع  سلوكه وتلفظه ، وفترات صمته وصراخه ، وتقمص شخصيته .

ولولا حركة المجموعة بحركتها التعبيرية الشابة الديناميكية التي خففت قليلا من ثقل الدور التي أدته (هناء محمد) مكان الحال ثقلا عليها ، وربما شعرت المخرجة (ليلى محمد) ان الخروج على بنية العرض المونودرامي ، من خلال هذه المشاهد التعبيرية ، المضافة ، على المتن والشكل ، الأوحد للممثلة ، ولا من ينتقص (وحدة أداء) الممثلة ، التي استعانت بـ( ريبتوار) – ان صحت التسمية – لأدوارها النسوية التي قامت بأدائها الممثلة (هناء محمد) في رحلتها الفنية السابقة في المسرح او التلفزيون او السينما ..

ومن النادر ان تقنع ممثلة هذا الجمهور المسرحي المتنوع ، والمختلف ، بأذواقه وخبراته وتفضيلاته ، لكن الدعم والاسناد من كادر التأليف الموسيقي للفنان المبدع (سليم سالم)واضاءة (عباس قاسم) وزملاءه ، وتقنيات (عماد صفوك) وماكياج (ستار جبار) كذلك ولايمكن تجاوز الخطة الناعمة للدراماتورج (رشيد) التي ضبطت اتجاهات العرض وتماسكه هذه كلها مجتمعة حققت رضا مقبولا في هذا النمط من العروض الذي تحفه المخاطر لانه مركب صعب ، جازفت المخرجة (ليلى محمد) والممثلة (هناء محمد) في ركوبه ، بقدرات فنية محسوسة ، وفي الغالب مؤثرة عند المتلقي .

يعتبر العرض في جوهره عرضا نسويا بامتياز ، فالدور يخص امرأة اسمها (نورية) وقامت بادائه الممثلة (هناء محمد) اما تأليف النص ، وإخراج العرض فهي (ليلى محمد).. وهما يستحقان الإشادة ، بهذا التوق المسرحي والاصدار على تقديم (موضوعة) مازالت تحرضنا جميعا للتأكيد عليها ، وهي قضية المرأة .. الام حين توجه العنت والجبروت والموت من قبل (الاخر) من خلال (لغة المسرح) الواحدة من بين (لغاته) المتعددة .. حتى ان نفذ ملك الموت الى ازهاق حياتها ، لتقف متلفعة بالكفن ، وهي تقاومه لاخر دمعة تذرفها وجلة على كينونة وليدها الوحيد .. ليحظى بحياة كريمة تليق بالإنسان

————————————————————-

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *