المسكيني يمنطق السقائين مسرحيا

المسكيني يمنطق السقائين مسرحيا

د.سعيد محمد السيابي
أستاذ المسرح بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية.  جامعة السلطان قابوس 

كلما تقترب أكثر من قراءة مسرحية لكاتب عربي التطلعات ومنغمس في بيئته وتاريخه إلا خرجت بدروس كبيرة للحاضر وأن التاريخ درسٌ مستمر والمسرح حياة تتجسد بالاستدعاء ليكون القارئ والمشاهد أمام محكمة مفتوحة للقاضي الكاتب الذي يطلب متى ما أراد شهادة الشهود لواقعة ليثبت من خلالهم أن العدالة ناجزة وأمامها كل الإمكانيات في تقديم ما تراه مفيداً وجديداً للملف المفتوح للقضية. وبالاستعانة التاريخية ينسج لنا الكاتب المغربي المسكيني الصغير مسرحيته (منطق السقائين” الإصدار الذي نشره في العام 2021م وألحق به نصا آخر هو (الخروج من معرة النعمان) والتي أصدرها قبل ذلك في العام 2001م والتي تُعد إضافة للمكتبة المسرحية العربية ودعما مستحقا يقدمه الناشر” مسرح الورشة” لإنجازات كاتب عربي في قيمة المسكيني الصغير الذي قدم أكثر من خمسة عشر مؤلفا مسرحيا ونشرها بالتتابع منذ العام 1995م.
في هذا النص (منطق السقائين) تصدمك العتبات الأولى بمفردة المنطق التي لها مدلول الحجج والاستدلال والبرهان الصحيح، فعن أي منطق تتحدث الشخوص التاريخية؟ وأي أحداث كانت ذات مدلول يمكن منطقتها بالحجج؟ وما هو معروف عن البطل في المسرحية الأستاذ والطبيب التاريخي “فريد الدين العطار” صاحب كتاب (منطق الطير) فلماذا هذا الانزياح في المسرحية من عالم الحيوان إلى الإنسان صاحب مهنة السقي وتقديم شرب الماء للعطشى وأي عطشى يحتاجون في وقتنا الحالي للماء وقد توفرت كل وسائل الشرب من قوارير والآلات تحفظ الماء وتوصلها بأسعار رمزية؟ هذه الأسئلة حاول الدكتور إبراهيم الهنائي في تقديمة للنص أن يقول عنها إشارات في فكر كاتب المسرحية، فها هو يذكر” بالنسبة للكاتب المسكيني الصغير التاريخ استثمار فكري وسياسي لتسليط ضوء جديد على الحاضر. فالرجوع للتاريخ ليس من باب نوستالجيا الحفريات ولكن من منطق مواجهته بحاضر مكرس قصد خلخلته”.
فالتحول من منطق الطير عن العطار إلى منطق الإنسان المطحون، فها هو يعترف ” لقد أخطأت في حق الطيور.. اتخذتها أمس قدوة ومثالاً لإرشاد الغافلين في الأمة في هذا العالم الغريب.. ربما كان منطقهم عصيا على الفهم والتطبيق”. فكانت الأسئلة المنطقية تتنزل من فكر الأستاذ العطار بحال زمانه وعجب ما يراه حاضرا أمامه ” من تراه يمنع نعمة الله على عبادة؟” فتأتي الإجابة من صاحب المهنة السقاء معروف، والمعروف هنا كاسم له دلالة فالأبعاد لصاحب هذه المهنة محددة فالحاجة تجبره على حمل قربته والبحث طوال اليوم عمن يحتاجون لشرب الماء ليكسب دراهم بسيطة تسد رمقه، ولكن الإجابة على سؤال الأستاذ كانت بلغة الحاضر وهموم الواقع ” احتكره يا سيدي. وأصبح يبيعه في زجاجات وعلب عجيبة. بل أسس للماء شركات مجهولة الاسم والأصل. يديرها أجانب حلفاء في البلاد. بلاد الخلافة”. واضح أن الاسقاط الذي استند إليه الكاتب بالاتكاء على التاريخ ليس هدفه التذكُر والاحتفاء بالشخوص وإنما هو محاكمة الحاضر بأدوات الماضي التي قال عنها في مفردة العنوان بالمنطق، فلا أحد يستطيع الآن أن يغلق مصدراً مهماً للحياة وهو الماء، فهناك خيوط كثيرة تتداخل فيها الموارد مع المنتج النهائي الذي هو ملك أصيل للجميع حتى لو كان المنبع والأصل في الشيء يمكن أن يتحكم فيه فرد أو جهة ما أو شركة كبيرة فلا يمكن أن يكون ذلك إلا بالتراضي والمشاركة فالحق للجميع للوصول إلى الماء/الحياة الكريمة.
هذه المسرحية درس من التاريخ وانتصار للحق والحقيقة مع الإنسان والإنسانية التي تحتم أن تكون القيم العليا هي الأساس وما عدها هو استكمالاً للفروع في سلم الحاجات الضرورية، فها هو فريد الدين العطار ينصح السقاء معروف بأن” اشرب الحقيقة.. لا تستهين بقلبك وعقلك”، فدعوة تحكيم المشاعر والحكمة العقلية في مواجهة كل ما يقف عثرة أمام السلوك القويم هو الأصل الذي نتعلمه من الماضي لتستمر الحياة بحلوها في تقدم وازدهار، واجتماع الكلمة والمصلحة العليا مقدمة على كل مصالح ضيقة وعلى دعاة الفتن والحروب والنزاعات ومنتجو الدسائس والتفرق بين أبناء الدولة الواحدة – دولة الخلافة – كما يسميها، وكأنها رسالة للأمة العربية مجتمعة، بأن تنظر إلى ما يقويها، ويحملها على تجاوز الصغائر، والترفع عن القلاقل، والنهوض بالإنسان العربي بمنطق العلم وروح العلماء العارفين في كل فنون العلوم، فالطبيب والأستاذ فريد الدين العطار نموذج عربي ترك لنا إرثاً ثقافياً وفكرياً كبيراً، وهذا العلم والنصائح التي سجلها لنا تعيش بيننا عمراً، وكأن الكاتب المسكين الصغير أراد أن يذكرنا بأننا أصحاب رسالة سامية مهما تقادمت علومنا وعلماؤنا، ولكن ما قدموه لنا من إنتاج فكري يزيد ثمنه بالتقادم كالذهب، وتبقى مادته الخام وأصله لا تتغير بل تتوارث جيلا بعد آخر. 

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.

   

This will close in 5 seconds