تصارع المثال والواقع في دكتاتورية الجسد – العراق

تعد المونودراما شكلا من أشكال الدراما وهي فعل درامي ذو منحى قصصي تحتل فيه الحركة التمثيلية موقعا مركزيا ليحقق بعضا من جماليات الأداء المسرحي. والمونودراما ايضا عمل تجسيدي لا تجريدي يستطيع الوقوف على المسرح كما يستطيع المثول بين ضفتي كتاب على حد تعبير الشاعر صلاح عبد الصبور، وهي تقوم على سيادة شخصية أحادية لتؤدي دورا مهيمنا على مساحة العرض المسرحي كله متبنية رؤية موضوعية كي تعبر عنها.
وإذا كان هناك اختلاف جوهري بين الدراما والفلسفة بوصف الأولى صراعا ذهنيا بين الفكرة والشعور وبكون الثانية تجريدا منطقيا؛ فإن اللمحة الخفية التي تجمع بينهما هي الموضوعية. وتستعير المونودراما كشكل مسرحي معاصر من السرد رحابة أبعاده التخييلية ومن الشعر جماليته الأدائية، وتنماز عن الأوبرا أو الأوبريت بكونها عبارة عن شكل مصغر للمسرحية يحمل طابعا شعريا أو نثريا لكنه ليس غنائيا.. وتهيمن الشخصية الوحيدة على المسرح مستبدة بالرؤية والتشخيص حركة وانفعالا عبر توظيف الحوار الخارجي (المنطوق) والداخلي (الصامت) مع الزج بالمقاطع السردية بين الحوارات. وإذا كان الشخصية المونودرامية تتقمص عدة وجوه وتؤدي عدة أصوات؛ فإن تلك التعددية الصوتية لا تعني أنها تشبه الرواية المتعددة الأصوات التي تستلزم عدم وجود وجهات نــظر متباينة. وهذا ما نجده في النصوص المونودرامية الخمسة لمجموعة (ثمة من يقف وحيدا على حافة الوقت) للدكتور علي حداد وهذه النصوص تميزت بنزعة تأويلية تظهر المخبأ على شكل ثنائيات متضادة كعلاقة الأفكار بالأفعال والروح بالجسد والحرب بالحياة والماضي بالحاضر على وفق رؤى تأملية وفلسفية تستعين بمختلف الوسائل البلاغية وأدوات الإبداع الجمالية. ولئن كان الشعر غير كاف للتعبير عن الاحتدام الشعوري وضجة الوعي اللذين يتطلبان مقدرة على الانجاز؛ فإن توظيف المونودراما في هذه النصوص بدا أمرا محتما. والنصوص الخمسة هي على التوالي ( دكتاتورية الجسد ومخلوقات الغواية النبيلة والصافي في قصيدته الأخيرة وآخر حلاقي المملكة ورسالة الأوجاع البغدادية)، وتعد مونودرامات ذات قوالب شعرية تقدم الشخصية المأزومة وهي تعاني صراعا نفسيا وتحديا أخلاقيا في أجواء من التبدل والتلون والتحول تفاعلا ونماءً وحيوية عبر لغة تكتنز بطاقة شاعرية تتماهى تارة بالحوار الباطني المونولوجي وأخرى بالحوار الخارجي المنطوق. وقد عمل الصراع على تحريك هذه النصوص فكريا أزاء قضية ما مفلسفا كينونة الشخصية في علاقتها بالناس والمجتمع وبطريقة هارمونية احتدامية مؤثرة وفاعلة تعتمد التآلف بين الرمز والواقع من جهة والحقيقة والخيال من جهة أخرى وهذا ما أوجد تضادا ومفارقة وتغريبا.. وقد أدى التوزيع للاعتراضات بالجمل السردية وظيفة درامية أسهمت مع الحوارات الخارجية والداخلية في تصاعد الأحداث ونمو الشخصية وتطورها، وهذا ما منح البنية المسرحية مزيدا من التوازن في بلورة الصوت الدرامي. ولان نصوص (ثمة من يقف وحيدا على حافة الوقت) هي أدائيات شاعرية لذلك فإنها تميزت بدفقات شعورية عالية جعلت الشخصيات كيانات جدلية ذات احتدامات عقلية وذهنية لتؤدي أدوارا دراماتيكية تستحث المفارقة حينا والتغريب أحيانا بغية التعبير الجمالي عن قضية فكرية أو رؤية تأملية.. ويقوم أول نص مونودرامي وعنوانه (دكتاتورية الجسد) على رؤية تأملية تحاول فلسفة العلاقة بين الجسد والروح، الأول بانكساره المعنوي وتشظيه النفسي، والثاني بهيامه المثالي ليتحولا إلى جزأين متغايرين ومتضادين، الجزء الأول هو (سامي) الذي يمثل النصف العلوي الراقي والمتسامي بمثاليته الطوباوية وأحلامه الوردية وشفافية عواطفه وسمو وجدانه. والجزء الثاني (سافل) النصف السفلي المراوغ والمخاتل والشرير الذي ينحط بواقعية إلى شر مستطير نازعا نزوعا بوهيميا ممعنا في إشباع نزواته السوداوية والتمتع الآني بما هو غرائزي في أجواء من الظلام والانتشاء وبأي وسيلة كانت لأن المهم عنده اللذة الفردية من دون اكتراث لمشاعر الآخرين ومصالحهم.. ويشكل الصراع اللبنة الثانية في النص، بعد الحوار والصوت الخارجي، والتي يقوم عليها الفعل الدرامي ويكون انقسام الشخصية الوحيدة في المونودراما رمزا للأفكار الطوباوية التي لا مجال للجسد أن يحولها إلى أفعال ويكون نتيجة هيامها الروحي تعاسة نفسية للجسد .. واذا كان النص قد ابتدأ متباهيا بالروح بصوت الأنا فإنه تحول في الخاتمة إلى كينونة واحدة بروحها وجسدها، اذ ما عاد للروح أن تهيم على حساب الجسد، بل صار عليهما أن ينتظرا ليؤديا دورين في آن واحد دور المتسلط ودور الخاضع، الأول هو الجسد بحضوره الواقعي والثاني الروح بغيابه المؤجل في ملكوت الهيام والخيال. وبذلك تتأكد وجهة النظر الواقعية التي تعترف أن الوجود لن يتجلى أمامنا حاضرا إلا بتوازٍ عادل للأفكار والأفعال وبتجاوب منطقي بين الغياب والحضور والخيال والحقيقة بذلك يرتقي الإنسان بروحه وجسده معا. أما التنكر للواقع والهيام بالوهم فذلك نتيجته الاصطدام والخيبة التي تعطل وظيفة الجسد والروح معا.

————————————————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – د. نادية هناوي سعدون – شبكة الإعلام العراقي

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *