المسرح لعبة التمثيل وسحر الممثل..الابتكار والتجريب

إلحاقاً لما تم الحديث عنه سابقا في ما يتعلق بفن التمثيل وسحر الممثل نواصل فنقول : تطور المسرح وتطورت لعبته على مر السنوات الطوال التي كان فيها ملاذا للمتلقين

الباحثين عن المتعة والمعرفة المحملين بالأسئلة الكونية الناظرين إلى أبعد الزوايا والعوالم , المسرح فن الرؤى ومفتاح العوالم الغرائبية والجمالية المدهشة لذا كان هذا الكائن السحري يفتح أبوابه أمام الباحثين المبحرين في عمق عوالمه  الذين لا يكتفون بما يمنحه لهم بل يطالبونه بالمزيد فيذعن لعنادهم ويمنحهم مفاتيح لفك أسراره والولوج إلى غور أعماقه وهو يدرك أنهم لن يكتفوا ولن يقعدوا عن طلب المزيد لعلمهم أن فن المسرح متجدد ومتغير ومفتوح لكل ما هو جديد ومجدد، لهذا كان له منظروه وباحثوه والسابحون في ملكوت ضيائه , لذلك كان هناك مصلحوه والمجددون في فضاءاته ستانسلافسكي وارتو وكوردن كريك   وبرخت وبيتر بروك وكروتوفسكي ومايرخولد وباربا ممن اكدوا على فن الممثل باعتباره العراف الأول في المسرح منذ ان اعتلى ثيسبس عربته ودار بها في شوارع أثينا مغنيا أشعاره وراقصا على انغام موسيقاه نتوقف اليوم لنتم الحديث عن فن الممثل وهذه المرة سيكون الحديث عن المخرج والممثل الروسي فيسفولد مايرهولد  الذي كان احد تلامذة ستانسلافسكي والعاملين معه والذي سرعان ما انقلب عليه وغايره في فهمه وعمله في المسرح وفن الأداء المسرحي .. الممثل لدى مايرهولد يختلف تماما عن الممثل لدى غيره من المخرجين إذ أنه يدعو إلى رسم الحركات على خشبة المسرح  ؛لأن هذا الرسم يساعد الممثل على تفهم حواره الداخلي  كما يحدد طبيعة العلاقة بين الشخصيات داخل فضاء الخشبة إذاً هو يدعو الى التأكيد على الحركات البلاستيكية غير المطابقة للكلمات التي ينطقها الممثل فهو يجعل بهذه الطريقة المتلقي تحت تأثير بصري وسمعي للممثل وعلى وفق هذه الطريقة فإن الممثل يعتمد الأداء التالي ولابد له من أن يتقنه :

في مجال اللفظ
عليه ان ينطق الكلمات نطقا باردا ومتحررا كليا من الاهتزازات والحشرجات الباكية مع اختفاء التوتر والنغمة الكئيبة اختفاءا تاما كما ان للصوت ركيزة دائما وتسقط الكلمات سقوط قطرات في بئر عميقة اذ يسمع وقوع القطرة دون ارتجاج الصوت والفراغ كما ان على الممثل ان لا يجعل الصوت ممدودا وممطوطا وان لاتحتوي نهايات الكلمات على عواء خافت الممثل عليه ان يبتعد عن الارتعاش الصوفي المتمثل بالتلويح بالايدي والضرب على الصدر والارداف وانما عليه ان يعكس الخفقان الداخلي للارتعاش الصوفي في الاعين والشفاه والصوت وفي شكل الكلمة الملفوظة المعاناة الروحية  وتراجيديتها وثيقتا الارتباط بمعاناة الشكل الذي لاينفصل عن المضمون , الكلام السريع لا مجال له مطلقا يجب ان يكون الاحساس التراجيدي مصحوبا بأبتسامة على الوجه .
في المجال البلاستيكي
الكلمة في المسرحية ليست كافية لإظهار الحوار الداخلي لذا وجب البحث عن أشكال جديدة لإظهار هذا الحوار الدفين ومن هنا كان لابد من رسم الحركة البلاستيكية للممثل , فالبلاستيكا وسيلة ضرورية تعبيرية لغرض مفاجأة المتلقي ذي البصيرة الحادة على فهم الحوار الداخلي من خلال حركات الأيدي وأوضاع الجسد والنظرات والصمت  .
متعددة هي الطرق ومتنوعة هي الأساليب في التعاطي والتعامل مع فن الممثل على خشبة المسرح وداخل فضائه المليء بالأعاجيب ولاغرابة في هذا التنوع،  إذ جاءت هذه الطرق نتائج تجريب وبحث واجتهاد من أصحاب المدارس في الظاهرة المسرحية وأيضا رغبة منهم صادقة في تقريب هذا الفن الساحر إلى المتلقين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم ومستوى حياتهم المعيشي إذ كانوا بالتأكيد يسعون ليكون المسرح جزءا أساسيا وفاعلا في حياة الناس وان يكون فن التمثيل معبرا عنهم أي الناس المشدودة أبصارهم وأسماعهم صوب فضاءاته المغلفة بالأسرار المعتقة بالسحر ،انه الممثل يعبر عما يجول في ضمائرهم  من مشاعر حب وغضب وثورة ، انه الحامل والمتمثل لتمردهم واحتجاجهم وفوران عواطفهم وليس بالضرورة ان يكون الممثل حافظا لكل طرائق التمثيل حسب المدارس والطرق التي نظر لها هؤلاء المعلمون الكبار بل ان يكون عارفا ومطلعا عليها ومدركا لأهميتها وان يؤدي ما مناط إليه من أدوار على وفق فهم ووعي وتبنٍ يأتي من فهم النص ذاته ومن معرفة وتوجيه المخرج صاحب المشروع المسرحي الرائي والمفكك والباحث في مغاليق وأسرار هذا المشروع إذ ان النصوص المسرحية المكتوبة الكلاسيكية منها والحديثة العالمية منها والمحلية التأريخية فيها والتراثية ما هي إلا مشاريع للعمل مفتوحة لإعادة القراءة والتحليل والهدم والبناء وصولا إلى معان ومفاهيم جديدة تتناسب مع متغيرات الحال ومتطلبات الأسئلة التي يفرضها الواقع الحياتي الجديد   الممثل العلامة الأولى داخل فضاء العرض المسرحي تتبدل المناهج وتتحور الأساليب ويبقى هو وحده مصدر السحر ومنبع الإجادة وقد كانت لي من خلال عملي في المسرح تجارب مع ممثلين بعضهم منحني شعور التجلي وهو يقف معي فوق الخشبة لاعبا ماهرا ذا دربة واجتهاد وجرأة وبعضهم كان مصدر قلق وحذر لأنانيته وتوحده حول ذاته وتقولبه داخل الأداء النمطي المتعب وان تكون ممثلا داخل فريق عرض مسرحي هو غيرك حين تكون قائدا لفريق عرض مسرحي يحمل رسالة ويسعى لهدف نبيل ؛لذا علمتني التجربة المسرحية ان أحسن انتقاء المواهب التي تشاركني المغامرة الفنية التي اقدم عليها في ان تكون منتمية للتجربة مؤمنة بما تقدم بوعي معرفي وروح مهذبة تقدس كل ما هو وطني وإنساني وتحترم  اجتهاد الآخر لأن المسرح ابن البيئة وضمير الناس يتمثل همومهم ويصور أحلامهم ويدعو لعالم تسوده الألفة والأمان  ,التواصل مع الممثل الذي يعمل ضمن الفريق الذي ينتمي إليك يعني وجود الفهم والهم المشترك وهذا يختصر المسافات ويمنح التجربة الوليدة قدرتها على الحياة المعافاة ومن ثم قدرتها على التأثير.

 

د. عواطف نعيم

الجزء الرابع

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *