(عين)هل تكتب الحرب «شهادة وفاة» المسرح اليمني؟

 

 

هل تكتب الحرب «شهادة وفاة» المسرح اليمني؟

 

لم تكن السفن والقوافل القادمة من الهند إلى اليمن، ومدينة عدن بالذات – أواخر القرن 19 وأوائل القرن الماضي تحمل الأرز والبهار والبخور فقط، لكنها حملت الفنون أيضاً، ومن ضمنها فن المسرح.

فقد شهدت عدن أول عرض مسرحي في منطقة الجزيرة العربية سنة 1904 والذي قدّمته فرقة «جملت شاه» الهندية في موقع غير مخصص للأداء المسرحي في أحد أحياء المدينة. وكانت هذه الفرقة في طريقها آنذاك إلى عدد من بلدان شرق إفريقيا لتقديم عروضها هناك، وقد توقفت في ميناء عدن للتزود بالوقود، وبسبب وقوع مشكلة في الميناء تضطر للبقاء نحو أسبوعين، ورأى صاحب الفرقة قتل الوقت بتقديم عروض مسرحية لأبناء الجالية الهندية التي كانت الأكبر في عدن حينها.

في الأعوام التالية تواتر وصول الفرق المسرحية الهندية إلى عدن، وكانت ترافقها أحياناً فرق فنية تضم عدداً من المطربين والعازفين والراقصين من الجنسين، بالاضافة إلى فرق السيرك التي اشتهرت بها الهند آنذاك مصحوبةً بأنواع من الحيوانات والزواحف والطيور التي عرفها سكان عدن للمرة الأولى.
وقد شكّلت هذه العروض حافزاً لدى عدد من شبان عدن الذين تنادوا لتشكيل «فرقة التمثيل» سنة 1910، التي دشّنت حينها أولى إرهاصات فن المسرح في اليمن بتقديمها مسرحية «يوليوس قيصر» عن رائعة وليم شكسبير.

غير أن الدلائل التاريخية تشير إلى عراقة الظاهرة المسرحية في اليمن منذ العصور القديمة، حيث أرجعها الباحث اليمني يحيى محمد سيف إلى 3000 سنة قبل الميلاد، بالاستناد إلى نقوش أثرية عثرت عليها بعثة آثارية أوروبية مختصة بآثار حضارة سبأ والتي كشفت عن وجود ملاحم مسرحية وقانون للممثل ومسارح وغيرها من الدلائل التي تؤكد عراقة معرفة اليمن بهذا الفن.

ملامح أولى

شهدت عدن منذ ثلاثينات القرن الماضي ظهور الفرق المسرحية التي توالت عروضها وأفرزت أعداداً من المؤلفين والممثلين، بإمكانيات فردية ومقومات بسيطة، غير أن الجمهور العدني كان يوليها الاهتمام الجم ما شجّع على استمرارها وتزايدها وتطورها. ولم تأتِ حقبة الخمسينات حتى كانت الملامح الأولى قد تشكلت لحركة مسرحية يمنية توضحت معالمها تماماً خلال عقد الستينات الذي شهد انتشاراً للفرق واشتهاراً للأعمال والفنانين واتساع نطاق الجمهور، ثم كان لافتتاح تلفزيون عدن أواخر 1964 دور كبير في تعريف الأهالي بفن المسرح بصورة أوضح من خلال عرض الأعمال العربية واليمنية والبرامج الخاصة بالتناول الإعلامي والنقدي للنشاط المسرحي.
وإثر قيام الثورة التي أطاحت بالنظام الإمامي المتخلف في شمال اليمن سنة 1962 شهدت صنعاء وبقية مدن الشمال حضوراً مسرحياً للمرة الأولى بعد أن كان المشهد المسرحي مقتصراً على عدن وعدد من مدن الجنوب كحضرموت ولحج وأبين.
أما عقدا السبعينات والثمانينات فقد كانا أزهى عهود الحركة المسرحية في شطري اليمن التي لم تكن توحدت بعد. وفيها ظهرت عدة فرق مسرحية إلى جوار الفرق قديمة العهد، وكان معظمها مملوكا للدولة، ولم ينحصر حضورها في المشهد المحلي كما في السابق، بل امتد إلى المشاركة الخارجية وبالذات المهرجانات والمواسم المسرحية التي شهدتها مدن عربية وأوروبية. وكانت أبرز هذه الفرق فرقتا «المسرح الوطني» في عدن وصنعاء. كما ظهرت أجيال من الكُتّاب والمخرجين والممثلين والفنيين المتخصصين والمحترفين والذين حظيَ معظمهم بفرص التأهيل الأكاديمي في كليات ومعاهد عربية وأوروبية عدة.

كما أسهمت عوامل أخرى في نشر الوعي الجماهيري بالفن المسرحي واتساع رقعة نشاط وتطور الحركة المسرحية، من بينها: إنشاء مؤسسات مختصة بتخطيط ورعاية النشاط المسرحي، وتأسيس معهد للفنون يضم قسماً للمسرح في عدن، وتشكيل فرق المسرح الجامعي والمدرسي، وتحطيم تابو المشاركة النسوية على الخشبة المسرحية، وازدياد رقعة الاهتمام بالنقد المسرحي المنهاجي ومنح النشاط المسرحي حيزاً جيداً من اهتمام الصحافة والإعلام، وقيام الاذاعة والتلفزة بإنتاج وبث العروض المسرحية، وظهور «مسرح العرائس» بشكله المعروف في معظم الدول لتشكيل وعي مبكر بفن المسرح وقاعدة جمهور لدى الأطفال، بالاضافة إلى تكوين «مسرح الجيب» الذي كان يتنقل بين أحياء وضواحي المدن والقرى في عدن وحواليها لتقديم العروض القصيرة التي تستند على نصوص يمنية وعربية ومُعرّبة تعالج قضايا تهم جمهور البسطاء من الناس.

وحتى بعد سنوات عديدة على قيام الدولة اليمنية الموحدة في منتصف 1990 كان المسرح إحدى العلامات البارزة في المشهد الثقافي اليمني، برغم تقلُّص رعاية الدولة للحركة المسرحية لأسباب سياسية ومالية.

«خليج عدن»

أثّر انسحاب دور الدولة في الرعاية والاهتمام والدعم بمختلف أشكاله على الحركة المسرحية ورقعة نشاطها ومساحتها الجماهيرية وحضورها الثقافي الذي كان سائداً ورائداً حتى عقد التسعينات. لكن ظاهرة مثيرة للإعجاب والجدل معاً ظهرت بقوة في عدن سنة 2005 أزاحت شيئاً من ركام الركود الذي ساد المشهد المسرحي في الأعوام الأولى من الألفية الثالثة. تمثّلت هذه الظاهرة في فرقة من الشبان الهواة من الجنسين اسمها «خليج عدن» يقودها الكاتب والمخرج الشاب عمرو جمال.
وقد شكّلت هذه الفرقة حالة مُبهِجة أعادت لخشبة المسرح وهجها بعد خفوت، ولو في نطاق جغرافي وموسمي محدود، إذْ جاءت عروضها المتميزة بنصوصها الساخرة وتنفيذها الفني المبدع لتنعش الواقع المسرحي مجدداً، فأشعلت روح المنافسة بين الفرق، كما شجّعت فنانين محترفين وهواة على تأسيس فرقهم الخاصة ولو بإمكانيات فردية متواضعة.

لعنة هنري

بالرغم من الرصيد الضخم الذي حققه المسرح اليمني في عمره المديد، حيث تجاوزت عروضه قرابة الألف عن أكثر من 600 نص يمني عدا النصوص العربية والمعربة، قدّمتها نحو 60 فرقة أهلية ورسمية.. إلاَّ أن إهمال المؤسسة الرسمية وشح الإمكانات المادية من جهة، ومن جهة أخرى توالي الأزمات السياسية والحروب الطاحنة التي شهدتها البلاد منذ ستينات القرن الماضي، قد أثّرت بصورة سلبية بالغة الحدّة على كل أوجه الحياة والمسرح من ضمنها بالضرورة، فالعديد من أشكال البنية التحتية للمسرح حصدتها الحروب واستولى على بقيتها أساطين الفساد الذين ترعرعوا بفضل تلك الحروب.. فيما راح بعض رموز الحركة المسرحية اليمنية ينظرون بسخرية سوداء إلى واقع حالهم بأنهم أصيبوا بلعنة شبيهة بما يتعارف عليه أهل المسرح بلعنة هنري الثامن التي أصابت مسرح شكسبير.
وفي ظل هذا الوضع الباعث على الأسى والمثير للإحباط «تفرّقت أيدي سبأ» بحسب المقولة التاريخية.. فهاجر عديد من المسرحيين – من مختلف التخصصات – ونزح بعضهم إلى وظائف أخرى، فيما لجأت البقية الباقية للاشتغال بالدراما التلفزيونية التي غدت إمكاناتها المالية وانتشارها الواسع مصدر إغراء لا يُقاوم لأهل المسرح فانتقلوا من الخشبة إلى الشاشة.
وفي غمرة هذا المشهد الموغل في تراجيديته، يرى الكثيرون أن المسرح اليمني قد مات ولم يبقَ له إلاَّ الحصول على شهادة وفاته التي كتبتها الحرب الأخيرة.. فيما يرفض آخرون من أهل المسرح هذا المنطق، معتقدين بقناعة مدهشة أن الأمر لا يعدو أن يكون بمثابة بيات شتوي قارس وطويل.

 

حسن عبد الوارث- الخليج

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *