على مسرح الجامعة الأمريكية في القاهرة: مسرحية «التجربة الدنماركية»… هاملت العائش في الحقيقة : محمد عبد الرحيم

المصدر : القدس العربي : نشر محمد سامي موقع الخشبة

ستظل مشكلة الفرد في مواجهة مجتمعه، من المشكلات التي يُعانيها كل مَن يحاول الخروج عن القطيع المستكين للحياة وتفاصيلها، لتبدو فكرة الفعل الثوري ــ أي فعل ــ دوماً محاطة بالشكوك والمواجهة العنيفة من قِبل الآخرين. وتعتبر شخصية «هاملت» النموذج الأمثل لهذه الحالة، لذا يمكن تأويلها واستعادتها في أي وقت ومكان، بداية من قصر ملكي في الدنمارك، وحتى منزل أسرة متوسطة تعيش في القاهرة. كيف يمكن أن تجد نفسك والجميع يرونك ويريدونك أن تتمثلهم، نسخة مكررة منهم ومزيفة من ذاتك؟ هذا أساس الصراع والحكاية التي تناولها العرض المسرحي «التجربة الدنماركية»، الذي عُرض مؤخراً على مسرح الجامعة الأمريكية في القاهرة. العرض أداء: باسم الجندي، مصطفى حلمي، أحمد علاء، أمل محمود، أشرف رشاد، محمود عمرو، علي الكيلاني، وأيمن سرور. ديكور محمد زكريا، ستايلست أميرة صابر، إعداد موسيقى محمد خلفاوي، ماكياج ريتا هاني، إضاءة باسل ممدوح، مخرج منفذ محمد الحلواني ومحمد أسامة، والعمل نتاج ورشة «ارتجال» وإنتاج «عالم موازي»، وصياغة وإخراج صلاح إيهاب.

الآخرون

زوج وزوجة وأربعة أبناء وأم الزوج، أسرة متوسطة تتشابه والكثير من الأسر المصرية، ويبدو الرجل متوارثاً أسلوب أبيه في التربية، شيء من القسوة، وإرادته المفروضة على الجميع، هكذا مرّ بتجربة التربية الصالحة، وبالتالي أصبح جديراً بتحمل المسؤولية، ونجح في تكوين أسرة، وأعاد إنتاج طفولته من خلال أولاده. الحياة الروتينية في صورتها وتفاصيلها المعهودة، الاهتمام بكل ما هو تافه، طعام ونقود وملابس وتعليم فاشل ومستقبل أكثر فشلاً. لكن يبدو أن الابن الأكبر يُيَمم وجهه وجهة أخرى، فهو يعشق التمثيل، ويعمل من خلال فرقة مسرحية، ويستعد لتقديم دور (هاملت)، رغماً عن إرادة الأب، والموقف السلبي للأم، المنشغلة بدورها بتنظيف البيت وإعداد الطعام. فكان لابد من اختلاق عالمين مختلفين تماماً، بأن يصبح الشاب فرداً أمام الجميع.

هاملت

يعود الشاب إلى البيت فاقداً للوعي، محمولاً على أكتاف رفاق المسرح، فقد حاول الانتقام بالفعل، وتماهى معه الواقع الذي يعيشه والعمل المسرحي الذي يؤديه على المسرح، ونتيجة اختلاط كل من العالمين أصيب بصدمة أفقدته الحركة والكلام، وكان لابد من دخول الجميع تجربته ــ أسرته ــ بأن يتحول البيت إلى مسرح يستعرض حياة هاملت، وأن تعيش الأسرة تجربة التمثيل، بأن يصبحوا شخصيات المسرحية، وما بين الحقيقي وما يدور في وعي الشاب من لحظات انتقامية من الجميع، تبدأ محاكاة جديدة لهاملت وعالمه. فالأب يصبح العم مغتصب العرش وقاتل الملك، حيث لا يقتنع هاملت بأن يقوم والده بتمثيل دور الشبح، ولا يراه سوى في دور العم الخائن، ليصبح قتله هو هدف هاملت الأوحد.

العرض المسرحي

نجح العرض في تحويل تفاصيل هذه المأساة إلى كوميديا ساخرة من كل شيء، بداية من التعاليم المتوارثة والأعراف الاجتماعية العقيمة، وصولاً إلى السخرية من السلطة نفسها، بل وتوريطها في اللعبة المسرحية. تتم الاستعانة بمخرج مسرحي يحاول ترتيب العرض، وهو بدوره كثير الكلام دونما فعل، ينضم إليه ضابط وأمين شرطة يدخلان المنزل بعد شكوى السكان من أشياء غريبة تحدث في هذا البيت، فيتورطان بدورهما في تأدية أدوار في المسرحية، حتى أن فكرة تقديم أو استعراض جريمة العم أمامه ــ المسرحية داخل المسرحية التي استعان بها شكسبير ــ يقوم بها بعض المشبوهين والمقبوض عليهم في بوكس الشرطة، لتتحول قصة خيانة العم والأم إلى موال شعبي وأغنية من (أغنيات المهرجانات) فينقلب الأمر إلى سيرك كبير، حتى أن أحد المقبوض عليهم وهو من المتأسلمين، يأتي رفاقه إلى البيت، وكل حسب طريقته، ليروا في الشاب أنه ممسوس من الجن، فيتحول البيت إلى حضرة من الأدعية والابتهالات. هنا تصبح الأسرة في حالة اغتراب تام عما يحدث حولها، مخرج مسرحي ومساعده، ضابط وأمين شرطة، جماعة متأسلمة تحاول قتل الجميع بتهمة الكفر، وأولهم بالطبع ضابط الشرطة، لكنهم يتوحدون تماماً داخل العرض، ويتناسون مهنهم وشخصياتهم، حتى أن قصة حب تجمع ما بين أمين الشرطة وابنة عم الشاب ممثل هاملت، هذه العلاقة التي ستتوج بالزواج، وينتج عنها مولود يطلقون عليه اسم «هاملت» في النهاية.

من القتل إلى محاولة التصالح

يبدو هنا أن الحقيقة التي عاشها الشاب، الإيمان بموهبته وما يفعله، هي التي نجحت في النهاية، ففكرة قتل الأب ــ نفســـياً ــ أصبحت محاولة للتفاهم ما بين الأب وابنه، فالكل يرى بطريقـــته، ويُصر على أن رؤيته هي الأصح، لكن خلــق مساحة من الحوار، واللعب على ذكريات الأب وابنه، وإصــرار الأب في النهاية على الوقوف عاري الصدر أمام سيف ابنه/هاملت، هي حالة اختبار أو ميلاد جديد لهذه العلاقة، فإن استطاع الشاب فعلها سيفقد الأب حـــياته، ففكــرة فعــل انتزاع تاريخهما معاً من وعي الشاب، هي الموت الحــقـــيقي للأب، فالرجل في الأخير كان يريد بدوره التأكد من وجوده، وأنه لم يزل يعيــــش في وعي ابنه، بغض النظر عن الموت الفعلي، فاللعبة التمثيلـــية الكبيرة وضعت الرجل على صراط الحقيــقة، التي لم يك يتخيل يوماً أنه سيكتشف ذاته وقيمة وجوده، بعيداً عن دور روتيني موروث ظــن أنه واجب مقدس طيلة حياته الزائفة.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *