عن سيدة السينوغرافيا المغربية “يوليانا ناصف بريدوث” – د.طارق ربح #المغرب

عن سيدة السينوغرافيا المغربية “يوليانا ناصف بريدوث”

د.طارق ربح

    “الانتماء للفن والإبداع لا يكفي ليخلد إسم مبدع.. فالبقاء لمن يتألّق بإنسانيته وسخاءه الفني”

    يعود الفضل فيما حققه ويحققه المسرح المغربي من تميز، للمبادرات الأولى لرواده ورائداته. ثمّ لعطاءات المسهمين في تأسيس دروسه الأكاديمية، كل حسب تخصصه. وهنا نفسح المجال للحديث عن الأم الشرعية للسينوغرافيا المغربية، وهي الأستاذة الفاضلة “يوليانا ناصف برودوث” الّتي درّست الجيل الأول من السينوغرافيين المكونين من فئة خريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي. واستمرت في عطاءها اللامشروط لهذه المؤسسة، إلى أن حظِيتُ، رفقة ثلة من أبناء جيلي، بفرصة النهل من تجربتها المهنية الزاخرة، والاستفادة من توجيهاتها البيداغوجية السديدة.

    لا يمكنني الحديث عن التأسيس الأكاديمي للسينوغرافيا بالمغرب دون أن يرد إسم الأستاذة “يوليانا ناصف برودوث”، فهي مؤسِّسة الدرس السينوغرافي الأكاديمي، ولها الفضل الكبير في إرساء الإطار العام لتدريس السينوغرافيا بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي. وكلما ورد اسمها ينتابني شعور بالفخر والاعتزاز، كونها تنتمي لما أنتمي إليه، وكوني أنتمي لها ولانتمائها السينوغرافي. وأعتبر نفسي محظوظا كوني مررت من مقاعد درسها المهيب، ونهلت من علمها، وتشرّبت من مهاراتها، وتشرفت بإشرافها على بحث تخرجي من معهدنا العتيد.

    أذكر أنني عندما طلبْتُ منها، بكل وقار، أن تشرف على بحث تخرجي من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، اشترطت أن يكون اشتغالي على نص من المسرح العالمي، وأن يحتوي هذا النص على معطيات سينوغرافية تغري بالبحث والتحليل، ليفسح المجال لقدر مهم من الإنجاز والابداع. وقد كانت أستاذتنا الفاضلة لا تكلّ من تذكيرنا بأننا في المعهد لغاية التعلم والتحصيل والاكتشاف، وما فتئت تُلحّ علينا أن نخلق فرصا لكل ذلك، بالمثابرة والقراءة والاطّلاع.

وعندما أخبرْتُها أنِّي اخترت أن أشتغل على مسرحية “حياة جليلي جليليو” لبرتولد بريشت، أسعدها اختياري، وقبلت أن تتولى الاشراف على مشروع تخرجي دون تردد. فكان لي ذلك بمثابة فرصة للتّعمق في عوالم “برتولد بريشت” الفكرية والإبداعية، واكتشاف حياة “جاليلي جاليليو” الشخصية والعلمية، وما يتعلق بها من معطيات تاريخية ودينية. وبالموازاة مع ذلك كلّه، عشتُ مع أستاذتي المشرفة تجربة غنية في البحث والتحليل، والتوثيق والتدقيق، والإبداع والإنجاز.

    لقد تعلمت من أستاذتي “يوليانا”، أن الابداع السينوغرافي لا حدود له، وأن النصوص والأفكار، والآليات والتقنيات ومختلف العناصر الجمالية، ليست إلّا أدوات يجب تسخيرها بسخاء واستثمارها بذكاء، لخدمة الإبداع السينوغرافي ولإغناء المسرح المغربي والعالمي.
إنها المعلمة المربية، والطيبة الصارمة، لذلك كنّا نحبها ونهابها في نفس الآن. فهي المتمرسة التي لا تعترف في العلم والفن بأنصاف الحلول، وتتميز في مقاربتها البيداغوجية بتتبعها لكل طالب من طلبتها على حده، وتؤطر كل واحد بناءً على قدراته وإمكاناته. فلا تقبل من المتفوقين بديلا عن التفوق، ولا تسمح للسائرين نحو النجاح بغير المثابرة والاجتهاد.
إنها السيدة التي علمتني أن أعشق السينوغرافيا، وأن أراها في التفاصيل. وكثيرة هي التفاصيل التي تعزز أسباب عشقنا وشغفنا بالسينوغرافيا وسيدتها الأولى: المقتدرة التي مازالت حريصة على التواصل معنا وتزويدنا بنصحها ورشدها حتى الآن. هي القدوة المتمثلة بيننا، وهي المشترك الذي يجمعنا كي لا نحيد.

    كثيرة هي العبر التي استخلصها اليوم، من المسار البارز لأستاذتنا الفاضلة “يوليانا ناصف برودوث”، منها أنّ الانتماء للفن والإبداع لا يكفي، ليخلد إسم مبدع ما في صفحات مجال اشتغاله، مهما علت كفاءته، ومهما تميزت منجزاته، فالبقاء لمن يتألّق بإنسانيته وسخاءه الفني، ومن يزرع الحب في علاقاته المهنية كلّما أٌتيح له ذلك. ولأننا نحب الأستاذة “يوليانا” ونقدر فضائلها علينا وعلى المسرح المغربي، سنحتفل بها دائما، وسنعلم الأجيال القادمة أن تحتفل بعطاءاتها الخالدة، لأجلها ولأجلنا، حتى تستمر السينوغرافيا المغربية على نهجها، وتظل حاضرة في مختلف المحافل الوطنية والدولية، وتزيد من تألقها ونجاحاتها كلما زاد بها الزمن.

بقلم الدكتور طارق الربح، سينوغراف باحث

(المصدر: إعلام الهيئة العربية للمسرح)

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش