حين كتب فرويد عن هاملت في (تفسير الأحلام)؟

تعد هاملت أحد أشهر مسرحيات وليام شكسبير (1564- 1616) إن لم تكن أشهرها على الإطلاق وتصنف كمأساة، أو ما يسمى بـ(مأساة الانتقام) وهي نوع من المسرحيات كان شائعاً في ذلك الوقت. هي باختصار قصة هاملت الذي يموت أبوه الملك فما أن يمر شهرٌ على وفاته إلا وتتزوج أمه من عمه كلاوديوس فيستغرب هاملت ويحزن لأن أمه لم يبدو عليها الحزن الكافي وتزوجتْ سريعاً. ثم يلتقي هاملت بشبح أبيه الملك ليقول له بأنه مات مسموماً من قبل أخيه كلاوديوس ويطلب منه أن ينتقم له. كل ذلك يحصل في بداية المسرحية أما بقية المسرحية فهي تصور لنا تردد هاملت في قتل عمه وزوج أمه الجديد كلاوديوس رغم أن الفرصة كانت سانحة أغلب الأوقات لقتله، ويعتقد المحيطون بهاملت بأن الجنون أصابه فهو يبدأ بقول أشياء غير مفهومة وكذلك يحزن بشكل غير مبرر بالنسبة لهم. تصور لنا بقية المسرحية كذلك علاقة هاملت بأوفيليا الذي يحبها وتحبه لكنه يبدأ بمعاملتها بقسوة بدون سبب واضح. يقتل هاملت أب أوفيليا خطئاً فتبدأ أوفيليا بالتصرف بشكل غير منطقي حيث تبدأ بالغناء وبتوزيع الورود للمحيطين بها ثم تنتحر. ثم في المشهد الأخير يقتل هاملت عمه كلاوديوس، وتشرب أمُّه دون أن تدري كأسَ خمرٍ مسموماً كان مخصصاً له ليشربه، ويموت هاملت متأثراً بالجراح جرّاء مبارزته لأخ أوفيليا الذي جاء لينتقم من هاملت بسبب قتله لأبيه وتسببه في انتحار اخته أوفيليا، وهكذا تنتهي مأساة الانتقام هذه.تقول المصادر التاريخية بأن عرض مسرحية هاملت في القرن السابع عشر لاقى إقبالاً شعبياً حيث كان الناس يتأثرون أشدّ التأثر بمشهد الشبح، وبمشهد هاملت في المقبرة ودفن أوفيليا وكانوا يرون فيها تجسيداً لمأساة الانتقام وأيضاً تناولاً لموضوعة الجنون. أمّا النقاد والمفكرون حينها فقد اختلفوا في قيمة اسلوبها اللغوي فالبعض رأى فيها بلاغة جميلة وآخرون رأوا فيها بعض التدني في استخدام اللغة وأعابوا عليها الافتقار إلى الزخرف اللغوي بشكل كاف.

في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر بدأ الاهتمام النقد اللغوي يقلّ ورجحتْ كفّة النقد النفسي، وصار يُنظَر لشكسبير على انه مفكر وناقد للسياسة في وقته، فبدأ التركيز على نفسية هاملت والاضطراب الذي يصيبه والتناقض في شخصيته. قال حينها الشاعر والفيلسوف الانكليزي صاموئيل كولردج (1772-1834) ان هاملت شخصية ذكية كثيرة التفكير على حساب قلة الفعل، ثم استنتج ان رسالة شكسبير من المسرحية هي أن نعمل ولا نتاخر ولا نفكر كثيراً، أو بعبارة أخرى أن لا نكون مفكرين غير فعّالين.

في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بدأ نوع جديد من النقد للمسرحية فقال الناقد أندرو سيسل برادلي (1851-1935) أن هاملت أصيب بالميلانخوليا (نوع من الكآبة) نتيجة لخيبة ظنه بأمه، أما فرويد فقال أن جنون هاملت نستطيع فهمه كما نفهم الأحلام ففي كلام هاملت رموز لو حللناها لوجدنا العلة اللاشعورية لاضطرابه، وسنركز بقية المقال على أفكار فرويد حول هاملت.

نشر سيجموند فرويد (1856-1939)  أحد أشهر كتبه عام 1900 وهو كتاب (تفسير الأحلام) حيث وجد فرويد الذي كان يريد الوصول إلى أعماق النفس البشرية وفهم سبب الاضطرابات التي تصيبها أن الأحلام هي: “الطريق الأمثل إلى أعماق النفس”، كما يقول في الكتاب. ويرجع اهتمام فرويد بالأحلام وتفسيرها إلى أن الحلم يشبه الى حد ما الجنون، فلكليهما منطق متشابه يختلف عن منطق الصحو والعقل السليم، وبما أن فرويد كان طبيباً نفسياً يحاول فهم الجنون ومعالجته فيبدو أنه رأى بأنه لو استطاع تفسير الأحلام سيستطيع تفسير الجنون.

وكانت بدايات فرويد في دراسته للأحلام حين بدأ يسأل المرضى الذين يراجعوه عن أحلامهم ومحاولته لربط معاني تلك الأحلام بما يعانيه المرضى، ثم بدأ فرويد بتحليل أحلامه الشخصية محاولاً فكّ كل الرموز الحلمية. ثم صار يتأمل في كل المحاولات السابقة لتحليل الأحلام عبر مختلف العصور وآراء الأديان والمدارس الفلسفية في هذا الأمر، وبالطبع فإنه كذلك اهتم لآراء الشعراء والأدباء في الأحلام فأتى كتابه (تفسير الأحلام) موسوعة طويلة شاملة عن الأحلام.

ومما نجده في كتاب (تفسير الأحلام) أن فرويد كان أحياناً يتكلم عن تفسير بعض الأحلام لكن سياق الكلام يأخذه ليتكلم عن تفسير ظواهر نفسية تحصل في اليقظة فهو يرى أن الحلم واليقظة متصلان. وكذلك نرى أن فرويد في كتابه أحياناً يبدأ في تفسير سلوك شخصيات أسطورية لا شكّ في أنها لم تكن موجودة فعلاً على أرض الواقع لكنه يعطيها الأهتمام لأنها منتوج الخيال البشري، فما دامت كذلك فلابد أن تكون محملة بهموم البشر وما يعتري في أعماق أنفسهم من أمنيات ومخاوف.

ولتلك الأسباب فإن فرويد تناول تحليل سلوك شخصيات مثل شخصية هاملت، بطل مسرحية شكسبير، في كتابه (تفسير الأحلام)، فرغم أن هاملت شخصية خيالية، ورغم أن المسرحية لا تحكي لنا عن أي حلم له أو لبطل آخر في المسرحية، إلا أن فرويد رأى في تفسير سلوك هاملت شيئاً يسلط الضوء على أعماق النفس البشرية.

إعتبر فرويد أن أهم ما في المسرحية هو تأخر هاملت في الانتقام، فلو قارنا مسرحية هاملت بمسرحيات الانتقام التي كانت شائعة حينها سنجد أن ما يحصل في باقي المسرحيات هو أن البطل لا يستطيع الوصول لمن يتوجب عليه قتله، فتطول المسرحية والبطل يحاول تجاوز العوائق للوصول لضحيته، أما في مسرحية هاملت فليس هناك عوائق فيزياويّة تفصل الشخصيتين ولا شيء يحول بينهما بل أن الظروف مواتيه لهاملت لكنه لا ينفذ وصية أبيه.

فحاول فرويد تفسير أسباب هذا التأخر والتردد الذي انتاب هاملت فرجع إلى ظروف كتابة المسرحية وكتب في كتابه (تفسير الأحلام) أن شكسبير كان قد كتب مسرحية هاملت مباشرة بعد وفاة والده عام 1601 ولذلك يقول فرويد بأن ذلك ربما سبب بتهيج بعض الذكريات القديمة الطفولية في نفس شكسبير تجاه والده ترجمها في مسرحية هاملت، ويشير فرويد بأن لشكسبير إبناً كان قد مات صغيراً واسمه (هامنت) وهو اسم يشبه كثيراً اسم هاملت، وبذلك يحاول فرويد أن ينوّه إلى أن مسرحية (هاملت) تتناول موضوعة العلاقة بين الآباء والأبناء بشكل أساس، أو بشكل لا شعوري ربما.

غلاف احدى مجلات الصحة النفسية تضع رسماً كارتونياً لفرويد وهو يحلل شكسبير الذي يستلقي على اريكة التحليل النفسي حيث نشرت المجلة في هذا العدد موضوعاً عن تصوير الجنون في الآداب

غلاف احدى مجلات الصحة النفسية تضع رسماً كارتونياً لفرويد وهو يحلل شكسبير الذي يستلقي على اريكة التحليل النفسي حيث نشرت المجلة في هذا العدد موضوعاً عن تصوير الجنون في الآداب

حسب رأي فرويد فإن هاملت يتردد في تنفيذ الوصية لأن كلاوديوس يذكره بنفسه، فهاملت حين كان طفلاً – يستنتج فرويد – كان قد رغب بأمه جنسياً وتمنى لو يقتل أباه وينفرد بأمه، فحين أتى كلاوديوس وجسّد ما تمناه هاملت نفسه رأى هاملت أنه هو أيضاً مذنب حاله حال كلاوديوس فهو يمتلك نفس الرغبات الآثمة التي يمتلكها كلاوديوس ولهذا تردد في قتله فلم يرى نفسه جديراً بهذا العمل.

وبعبارات فرويد نقرأ من كتاب (تفسير الأحلام): “إن هاملت يستطيع أن ياتي كل شيء إلا أن يثأر من الرجل الذي أزاح أباه واحتل مكانته عند أمه، الرجل الذي يريه – إذن – رغباته الطفلية وقد تحققت. وهكذا يحل عنده محل الاستبشاع الذي كان كفيلاً أن يدفعه إلى الانتقام تأنيب النفس وتخوف الضمير يذكرانه أنه لا يفضل بحرف ذاك الخاطئ الذي كلف عقابه. وأنا إذ أقول ذلك أترجم في عبارة شعورية ما كان مقرراً بقاؤه لا شعورياً في نفس البطل” (1).

وحين كان فرويد يناقش دوافع هاملت في كتابه (تفسير الأحلام) شبههه بـ(أوديب) بطل الأسطورة الذي قتل أباه وتزوج امه. وكانت التلك المرة الأولى التي يستشهد فرويد فيها بأوديب، ثم طوّر فرويد فكرة ميل الطفل الذكر إلى إمه في كتب لاحقة وأسماها (عقدة أوديب) قائلاً أنها حالة طبيعية يمر فيها كل الأطفال أثناء نموهم ويصفها بالجمل التالية:

“يبدأ الولد الصغير في سن مبكر يشعر بالحب نحو أمه، وهو حب كان في الأصل متعلقاً بثدي الأم، كما أنه أول حالة من حالات اختيار الموضوع تنشأ على صورة الاعتماد على الأم. أما فيما يتعلق بالأب فإن الولد يقوم بتقمص شخصيته. وتبقى هاتان العلاقتان جنباً إلى جنب لفترة من الوقت، حتى تأخذ الرغبات الجنسية المتجهة نحو الأم تزداد في الشدة، ويأخذ الأب يبدو كأنه يعوق تحقيق هذه الرغبات. وعن ذلك تنشأ عقدة أوديب. ثم يأخذ تقمس شخصية الأب بعد ذلك يتخذ صفة عدائية، ويتحول إلى رغبة في التخلص من الأب لكي يأخذ مكانه من الأم. وتصبح علاقته الوجدانية مع الأب منذ هذه اللحظة متناقضة” (2).

ويقول فرويد بأن وصية هاملت لأوفيليا بأن تذهب للدير وتترهب يؤكدان نظريته، فحسب رأي فرويد أن من لا يجتاز عقدة أوديب بنجاح في طفولته سيبدأ يعاني من بعض المشاكل النفسية منها عدم القدرة على التوحيد بين الجنس والحب، فتصير المرأة بالنسبة له إما عاهرة أو قدّيسة لا ثالث بينهما، والعاهرة للجنس والقديسة للحب، فلا يستطيع ممارسة الجنس مع من يحب، ولا أن يحب من يمارس الجنس معها. وبما أن هاملت يحب أوفيليا فقد أراد لها أن تكون قدّيسة. واعتبر فرويد جنون هاملت تمويها أو تنكراً لرغباته الغير المقبولة، وتوسع فرويد في تلك الفكرة في (تفسير الأحلام) حيث أعتبر أن في الأحلام هناك رغبات غير مقبولة تعبر عن نفسها بطريقة متنكرة.

يرى الكثير من علماء النفس الحديثين أن فرويد بالغ كثيراً في نظريته هذه عن (عقدة أوديب) وحاول البعض تحليل نفسية فرويد ورؤية إن كان يعاني من مشاكل مع أبيه وأمه. واتهمه البعض بأنه ركز على الطفل الذكر وتناسى أو نسي الطفلة الانثى، فهل من المعقول أن تمر الطفلة الانثى بـ(عقدة أوديب)؟

ومن ناقدي فرويد طالبه كارل غوستاف يونغ (1875-1961) الذي انفصل عنه وشكل مدرسة منفصلة في التحليل النفسي وقد فسر يونغ مشكلة هاملت في انه لديه مشكلة مع الجزء الانثوي فيه، فكانت نظرية يونغ تقول بأن لكل منا جزء من الجنس الآخر في نفسه تساعده على فهم الجنس الاخر، ومشكلة هاملت كانت انه لم يطوّر الجزء الانثوي من نفسه ولذلك لم يفهم الانثى.

أما الطبيب النفسي ألفريد أدلر (1870-1937) الذي كان أيضاً مثل يونغ طالباً لفرويد ثم انفصل عنه واسس مدرسة تحليلية منفصلة فيبدو أنه ليس مشغولاً كثيراً بتردد هاملت فربما أن المكان الوحيد الذي ذكر أدلر فيه هاملت هو في كتابه (النظام العام لعلم النفس الفردي) في نهاية الفصل السابع حيث يتكلم عن الجريمة وفي سياق حديثه عن ضرورة انهاء عقوبة الاعدام يقول بأن السبب المنطقي الوحيد للقتل هو في حالة حماية النفس، فعندما لم تكن حياة هاملت مهددة من قِبَل كلاوديوس فلم يكن هناك من داع لهاملت في أن يقتل كلاوديوس وبذلك حسب أدلر فإن تأخر هاملت في قتل كلاوديوس هو شيء منطقي ولا يثير التعجب، ويقول أدلر أن الكثيرين أساءوا فهم هاملت.

قال الشاعر والمسرحية والناقد الأدبي الفائز بجائزة نوبل تي. أس. أليوس (1888-1965) عن هاملت بأنها: “موناليزا الأدب”، وقصده في ذلك ربما أنها محيّرة مثل الموناليزا التي أختلف المؤرخون في تحديد هويتها وأختلف النقاد في تفسير ابتسامتها، وربما نستطيع أن نقول أن كل عالم نفسي رأى فيها ما يريد أن يراه، ما ينعكس من شخصيته في هاملت.

إننا جميعاً ممثلون في مسرح الحياة، وما شخصياتنا سوى ذلك النسيج الذي نحوكه من خيوط نستلّها من شخصيات أخرى، لنؤديها على مسرح الحياة هذا الذي يشبه أحياناً حلماً طويلاً، فشكراً لسيجموند فرويد على تأملاته هذه في الأحلام وفي الشخصيات المسرحيّة، والشكر كذلك لناقديه ومعارضيه وطلابه، على كل تلك التأملات التي تغني موروثنا الفكري وتعمقه.

هوامش :

1.    سيجموند فرويد، تفسير الاحلام، ترجمة: د.مصطفى صفوان، مراجعة: د. مصطفى زيور. دار المعارف، مصر ص280-281

2.    سيجموند فرويد. الأنا والهو. ترجمة: د. محمد عثمان نجاتي. دار الشروق. الطبعة الرابعة 1982. بيروت، القاهرة ص53-54

——————————————————————————-
المصدر :مجلة الفنون المسرحية – سامي عادل البدري –  الناقد العراقي

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *