بدري حسون فريد… آخر عمالقة المسرح العراقي / علي لفتة سعيد

أحد من العراقيين والخليجيين ينسى شخصية إسماعيل جلبي في مسلسل «النسر وعيون المدينة» الذي أنتج عام 1983 ليلحق به مسلسل «الذئب وعيون المدينة» وكانا أشهر مسلسلين في الدراما العراقية وهما من تأليف عادل كاظم وإخراج الفنان المصري إبراهيم عبد الجليل، وقد أداها باتّقان الفنان الراحل بدري حسون فريد..
هكذا هو الفنان الحقيقي حيث يطبع في ذاكرة جمهوره شخصية معينة تبقى عالقة، وهكذا هو المتفرج العراقي يحفظ الشخصية أو العمل الذي ترك أثرًا، فالجميع مثلا يتذكر شخصية عبوسي التي احتلت مكان اسم الفنان العراقي حمودي الحارثي في مسلسل «تحت موسى الحلاق» وكذلك شخصية عبود أفندي للفنان الراحل يوسف العاني.
الفنان بدري حسون فريد رحل عن عمر ناهز التسعين عامًا، تاركًا خلفه الكثير من الأعمال الفنية في السينما والمسرح والتلفزيون.. وهو يعد من أوائل الممثلين في العراق ورائدًا من رواده، ورغم انحداره من مدينة كربلاء المقدسة التي ولد فيها عام 1927 فإن هذا الفنان قاوم الكثير من المغريات، واتجه الى الفن متأثرًا بأبيه الذي يعشق الموسيقى، ولم يبخل على ولده حيث أدخله معهد الفنون الجميلة قسم الفنون المسرحية عام 1950 وتخرج فيه عام 1955 ليحصل على الدبلوم والأول على دورته، ثم حصل على بعثة دراسية لدراسة المسرح في معهد (كودمان ثيتر) في مدينة شيكاغو الأمريكية للفترة (1962 – 1965) ليحصل على البكالوريوس والماجستير بتفوق.

الوالد وصداقة حقي الشبلي

ما يمكن تأشيره على رحلة هذا الفنان ليس العطاء الفني، بل هو ما يتعرض له الفنان اليوم من إهمالٍ، كما يؤكد الكثير من الفنانين العراقيين الذين أشاروا الى إن وفاته لم تكن مفاجئةً، بل كانت لها أسباب، منها تأثّره بالواقع العراقي حين عاد بعد عام 2003.. فقد كان يعتقد في سريرة نفسه إنه واحدٌ من روّاد المسرح والفن العراقي، وربما هو الوحيد الذي ظلّ على قيد الحياة، وإنه سيكون محطّ احترامٍ واستقبال الجميع له، وقد غادر المملكة المغربية التي استقر فيها منذ عام 1995 حيث عمل مدرسًا لمادّة التمثيل في جامعة الرباط.. في ذلك العام استقر في أربيل في إقليم كردستان وصورة بيته تعذّبه حتى أصيب بجلطةٍ دماغيةٍ هذا العام ليدخل في غيبوبة حتى وافته المنية في السابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

مع زوجته الفنانة ابتسام فريد

يقول الباحث والمؤرشف المختص بالمسرح الكربلائي الذي أرشف أغلب، إن لم يكن جميع أعماله، عبد الرزاق عبد الكريم: يعد رحيل الفنان بدري حسون فريد رحيلًا لعمالقة الفن الذين تركوا بصمةً كبيرةً في صناعة الجمال الذي نفتقده الآن ولا يوجد من يترك من بعدهم سمةً واضحة تكون عالقةً في أذهان الجمهور.. وأضاف إن الراحل تأثّر بأبيه الذي كان خيّاطًا يحب الموسيقى والأزهار، ويقال إنه أوّل من أدخل جهاز كرامفون من بغداد إلى كربلاء، ومنه صدحت أصوات مطربين عراقيين وعرب، وكانت لوالده علاقة صداقةٍ وثيقةٌ مع والد الفنان الرائد الراحل المسرحي حقّي الشبلي، وكان والده جنديا عند والد الشبلي أيام ثورة العشرين، من خلال هذه العلاقة توطّدت علاقة والده بالفنان الشبلي نفسه وهو الأثر الذي تركه في نفس ولده الصغير، الذي شاهد أول مسرحية، كان عنوانها «السلطان عبد الحميد» تقديم فرقة حقي الشبلي وإخراجه، عرضت في خان القطب وسط مدينة كربلاء القديمة عام 1933 وعمره لم يتجاوز الست سنوات.. وبعد أربع سنوات أي في عام 1937 وفي سنته العاشرة شاهد عرضًا مسرحيًا قدّمته المدرسة الفيصلية بعنوان «الطيش القاتل» إخراج الفنان قاسم محمد نور وكان تأثيرها كبيرًا في تكوين شخصيته الفنية. وأشار الى إن الفنان الراحل عاش في بيت والده المتزوج من أربع نساء، بدأ شعوره بحساسية الآلام النفسية التي تعيشها الزوجات والأطفال جرّاء تسلط الأب، حيث كان واحدًا من عشرين شقيقًا يجمعهم بيتٌ واحد، وما زاد في صعوبة الحياة في هذا البيت شخصية الأب ــ القهرمان ــ كما يسميه بدري حسون فريد، التي كانت تجمع بين القسوة والحنان، المحبة والأنانية، قوة الشخصية.

كان بدري ضعيف الإرادة منذ صغره أصبح جسمه مرتعًا لأمراضٍ كثيرة، امتصته حتى اقتربت به من الموت، لذلك فقد نشأ طفلًا خائفًا مرتعدًا.

كان بدري ضعيف الإرادة منذ صغره أصبح جسمه مرتعًا لأمراضٍ كثيرة، امتصته حتى اقتربت به من الموت، لذلك فقد نشأ طفلًا خائفًا مرتعدًا يحسّ بالانهيار النفسي، وكان خلاصه الوحيد أن يهرب من البيت ومعاركه وهمومه ومشاكله وقسوة الأب (القهرمان) ليلجأ إلى الحدائق العامة، يعيش مع أقرب شجرة أو نبته أو زهرة.. ويشير عبد الكريم الى إن الشيء الوحيد والمهم الذي استفاد منه فريد من حياته في ذلك البيت، حب والده للفن الذي جعله يحرص على أن يكون بيته متحفًا شرقيًا أصيلًا يضم مئات الصور واللوحات والتماثيل والديكورات، إضافة لاقتنائه مئات الأسطوانات الموسيقية والغنائية باللغات العربية والفارسية والتركية والهندية، وليس هذا فقط، كما يقول، بل كان حبّه للفن يدفعه لحضور جميع عروض الفرق المسرحية، التي كانت تزور كربلاء في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وعلى الأخص فرقة حقي الشبلي وعبد الله العزاوي ويحيى فائق وغيرها.. وكان بدري يحضر هذه العروض مع والده الذي كان يصحبه معه.

الفن وعشق المسرح

يتحدّث الراحل بدري حسون فريد عن تلك الفترة من خلال حوار معه إنه أحب الفن وعشقه عشقًا ملك حياته بقوة.. ويضيف في ذلك الحوار.. «ربما لأنني أردت التنفيس عن مشاعر الحرمان التي كنت أعيشها في طفولتي، أو الهرب من الدراما الحياتية التي كنت أشاهدها تمثل يوميا في بيتنا، أو ربما للتعويض عن ضآلة جسمي، وضعف شخصيتي في طفولتي، أو ربما كان الجو الديني والطقوس التي تؤدّى في عاشوراء في مدينة كربلاء وما كان يصاحبها من رفع المشاعل والأعلام الملونة وترديد الأهازيج وتمثيل مأساة الحسين، هو الذي حرّك خيالي الفني وأشعل في نفسي مشاعر الدراما وكون لي مخيلة درامية جعلتني أرتبط بالمسرح». لكن المؤرخ عبد الكريم يكشف موهبةً أخرى ربما سبقت موهبة الفن عند الراحل حيث كان في بداياته الأولى رسامًا ونحاتًا ويكتب الشعر والقصة، وفي الآخر ترك كلّ تلك الفنون وانصرف للمسرح (التمثيل). لتكون حياته عبارةً عن خشبة مسرحٍ، وشارك في كربلاء في أغلب المهرجانات التي كانت تقام خلال دراسته الابتدائية والثانوية، وفي معظم النشاطات الفنية خاصة المسرحية في مراحل ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. يقول شقيق الفنان الدكتور طارق، إن الراحل لم يذهب مباشرةً الى معهد الفنون الجميلة، بل التحق أولًا طالبًا في كلية الحقوق ليعمل مع فرقة جمعية بيوت الأمة مع الفنان الراحل جعفر السعدي عام 1946 لغاية 1947، ليلتحق في الوقت ذاته بمعهد الفنون الجميلة في السنة الدراسية 1950 ـ 1951 وفي الوقت نفسه كان يزاول نشاطه الفني في الفرقة الشعبية للتمثيل مع الفنان جعفر السعدي وجاسم العبودي. وكانت توجيهات وملاحظات (العبودي) ذات فائدة كبيرة له، وأعطى كل ما لديه بعد عودته المبكرة من دراسته في الخارج.

 كان حسون في بداياته الأولى رسامًا ونحاتًا ويكتب الشعر والقصة، وفي الآخر ترك كلّ تلك الفنون وانصرف للمسرح (التمثيل).

صناعة الجمال واكمال الدراسة

بحث الرعيل الأول عن صناعة جمالٍ، ويريد تحقيق الذات وبناء الحضارة، ولذا كانت الشهادة بالنسبة لهم هي أزميل الفن الجميل.. ومن هنا يعتبر بدري الخريج الأول من معهد الفنون الجميلة من مدينة كربلاء عام 1955، وقد اقتصر نشاطه الرئيسي في العاصمة بغداد. ويقول المؤرخ عبد الكريم إنه بعد عامين من تخرجه من معهد الفنون الجميلة أي عام 1957 كوّن بدري حسون فريد فرقة شباب الطليعة للتمثيل، قدّم من خلالها أعمالًا عديدة. ليسافر عام 1961 إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإكمال دراسته العليا في جامعة شيكاغو ويحصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير، وكان ترتيبه الأول على دورته، وهناك قدّم أعمالًا كبيرةً وعالميةً على المسارح الأمريكية، منها مسرحية «الطريق إلى الهند» شاركه في التمثيل الفنان الراحل ابراهيم جلال، وكانت من إخراج المخرج الأمريكي جالرس ماكو، ثم كان له دور البطولة في مسرحية برنادشو «المليونيرة» التي أخرجها جون رايخ عام 1963 ومسرحية «الأم الشجاعة» إخراج جو سلوك عام 1964، ثم مسرحية «أنا كارنينا» إخراج مدام ليان ومسرحية «كريسيتفورسين» إخراج رايخ، إضافة لأدوار كثيرة في مسرح الاستوديو. وأفاد بأنه كانت أطروحة البكالوريوس إخراج مسرحية «رحلة طويلة عن الوطن» ليوجين أونيل عام 1964 أما اطروحة الماجستير مسرحية «الشارع الملكي» تأليف تنسي ويليامز عام 1965. ويستمر بالقول إن الراحل عاد ومن شيكاغو إلى بغداد عام 1965 والتحق بمعهد الفنون الجميلة ليدرس الإخراج والتمثيل والصوت والإلقاء، ثم انتقل عام 1970 ـــ 1971 للتدريس في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد. ويقول شقيقه الذي يصغره بسبع سنين إن من ذكرياتي معه، أنه عندما كنت في الابتدائية كنت أرى بدري يتدرّب على حفظ الأدوار والإلقاء، وكان هو في الثانوية، وكان يقول حوارات روميو وجوليت، ولكثرة ما شدّني إليه، حفظت الحوار الذي يلقيه إعجابًا بما يفعله بدري، وأحيانًا يدخل في خزان الملابس، ليدرّب صوته ويصبح فيه صدى يسمعه الجيران. ويشير إلى إنه كان دقيقًا ومخلصًا ومتفانيًا في عمله، ويذكر أنه باع في يوم ما سجّادة (زولية) من البيت كي يقدّم مسرحية! كانت حياته كلها للمسرح.. كانت أعماله تسبّب له مشاكل كثيرة، مثل الاعتقال، وفي بيته يحتفظ ببطانية ووسادة مع كلّ عرض مسرحي. كاشفًا عمّا قاله في احتفالية أقامها له جمع من الفنانين بعد عودته إلى بغداد (إن ودعتكم قريبًا أو بعيدًا فاكتبوا في وصيتي (إنني لم أغنّ أغنيتي بعد).

________________________

المصدر : القدس العربي

موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *