النقد المسرحي وعمل الممثل – العراق

تبدو علاقة النقد المسرحي بعمل الممثل ذات صلة وثيقة بدءً من الناقد المسرحي الأول ( أرسطو ) الذي قنن قوانين الدراما في كتابه ( فن الشعر ) ومروراً بتصورات ( المؤلف / الناقد ) كشكسبير مثلاً في ملاحظات ( هاملت ) الشهيرة على أداء الفرقة المسرحية التي تمثل أمام الملك ( بولونيوس ) ، وانتهاءً بنظريات فن التمثيل على يد ستانسلافسكي وبريخت وآرتو ومايرخولد وكروتوفسكي والمنهجيات البنيوية والسيميائية في النقد التي إهتمت بعمل الممثل إنطلاقا من الفهم البنيوي والعلامي للعرض المسرحي ، ويمكن أن نتصور ثلاثة أوجه لتلك العلاقة .

1- علاقة ذات بُعد تأريخي :

وتشتمل على سياق تطوري يتمثل في التراكم الكمي والنوعي لرؤى وتصورات متعددة نابعة من الممارسة العملية لفن التمثيل ، إذ أن الإضافات المتعددة لعدد الممثلين في المسرح الإغريقي ( أضاف أسخيلوس الممثل الثاني ، وسوفوكليس الممثل الثالث ) هي في واقع الحال – وبحسب اعتقادنا – ممارسة نقدية أفرزتها الحاجة العملية لتوسيع عمل الممثل في العرض المسرحي وعدم الاكتفاء بـ ( رئيس الجوقة ) الذي كان شاخصاً وحيداً في البنية التمثيلية قبل أسخيلوس ، وهذه الممارسة النقدية العملية الأولى

هي التي طورت من دور الممثل في المسرح الإغريقي رغم خصوصية بنية التمثيل فيه قبل أن يقوم ( أرسطو ) بالممارسة النقدية النظرية في وصفه لعمل الممثل الإغريقي ووظيفته الخاصة التي تقتضي إثارة عاطفتي        ( الخوف والشفقة ) لدى المتلقي ، ولكن هذه العلاقة لم تنتهِ بأفول المسرح الإغريقي ، بل ظلت قائمة إلى عصرنا الحاضر ، ولعل في ظهور شكل ( المونودراما = المسرحية ذات الشخصية الواحدة ) في المسرح الحديث عودة أخرى لتلك الممارسة النقدية الأولى لعمل الممثل ، وبالتأكيد فإن لكل ممارسة نقدية من هذا النوع ظروفها التاريخية والعملية التي تفرض على المسرحيين ممارستها بحيث يندمج الفعل النقدي في هذه الممارسة بالحاجة العملية فتصبح وجهاً أولياً من أوجه العلاقة بين النقد المسرحي وعمل الممثل .

2- علاقة ذات بُعد بنيوي :

إذا كانت التجربة العملية قد أفرزت فعلاً نقدياً في علاقة النقد المسرحي بالتمثيل من خلال إضافة وحذف عدد من الممثلين في العرض المسرحي انطلاقاً من الحاجة إلى ذلك ، فان هذه الممارسة وإن كانت ممارسة نقدية إلا أنها ممارسة ظاهرية لم تدخل في صلب الأداء التمثيلي ، لذلك فان التراكمات التاريخية التي أفرزت لنا مدارس التمثيل المتنوعة قبل ستانسلافسكي كانت تنتمي إلى الوجه الأول من أوجه العلاقة بين النقد المسرحي وفن التمثيل ونعني به البُعد التاريخي الظاهري مثل : ( المدرسة الصوتية ) في المسرح الإغريقي خاصة و ( مدرسة فن العرض والتشخيص ) كما في نموذجها الكبير الممثل الفرنسي ( كوكلان ) و ( مدرسة التمثيل الآلي أو الكليشيهات ) كالنماذج التمثيلية السائدة قبل ظهور ستانسلافسكي ، ولكن بظهوره تحولت تلك العلاقة بين النقد والتمثيل من علاقة تاريخية / ظاهرية إلى علاقة بنيوية تهدف إلى تشريح البنية الأدائية لعمل الممثل للوصول إلى أفضل طريقة ممكنة لأداء الشخصية الأمر الذي تمخض عنه عدد من النظريات الجديدة في التمثيل وهي نظريات قائمة أصلاً على نقد السائد من أنماط التمثيل ومحاولة التنظير مختبرياً لأنماط جديدة تسهم في تطوير عمل الممثل كما عند ستانسلافسكي ومايرخولد وبريخت وآرتو وكروتوفسكي على سبيل المثال لا الحصر ، ورغم أن من كان يقوم بهذا الفعل النقدي الباطني هم بالأصل مخرجون ومؤلفون إلا انه يمكن عدّهم نقّادا في هذا السياق حيث لم يكن الفعل النقدي تخصصيا جداً كما هو الأمر عليه الآن ، وهذا يقودنا بالنتيجة إلى تمييز شكلين من أشكال التعامل النقدي مع فن التمثيل ، الأول : داخلي ، حيث يكون مُنتج الخطاب هو الذي يقوم بفعالية النقد من داخل التجربة المختبرية كما عند المخرجين السالفين ، وقد تطور فيما بعد إلى وظيفة ( الدراماتورج = الخبير الدرامي ) الذي يمارس نقداً وتنظيراً لكل مكونات العمل المسرحي ومن ضمنها البنية التمثيلية داخل التجربة المسرحية نفسها وهو الشكل الأكثر شيوعاً في المسرح الأوربي ، والثاني : خارجي يتمثل بالفعل التحليلي والتقويمي الذي يمارسه الناقد المسرحي خارج التجربة المسرحية بعد العرض الأول مباشرة وهو الشكل الشائع في المسارح العربية ، وتتباين درجات الإنجاز النقدي في قراءة البنية الأدائية للتمثيل من ناقد إلى آخر بحسب ثقافة الناقد وذائقته ومنهجه الذي يستخدمه في فحص العرض وفك إشتباكاته المعرفية والجمالية .

3- علاقة ذات بُعد تواصلي :

ومادام النقد المسرحي قد إستفاد في تطوير مناهجه من المنهجيات الحديثة في العلوم الإنسانية خاصة البنيوية والألسنية والسيميائية والتفكيكية ، وأصبح أكثر تخصصاً من ذي قبل متجاوزاً المناهج الانطباعية والنفسية والاجتماعية والتاريخية ، فإن ذلك قد إنعكس بشكل كبير على مجمل التصورات العامة لفن المسرح وبضمنها الفنون الأدائية في التمثيل ، فتحوّلَ الممثل في المنهجيات المسرحية الحديثة من ( ذات ) سايكلوجية فاعلة في العرض المسرحي إلى ( علامة ) تمتلك بُعداً دلاليا يختص بقدرة التأويل والإشارة إلى معانٍ مخفية مسكوت عنها بداخل تلك العلامة ، بحيث تصبح فاعلية الشخصية منطلقة من الفهم السيميائي للعرض المسرحي ، الذي يوفر فرصة كبيرة للمقاربة النقدية في إكتشاف الأنساق التواصلية التي يمكن أن تنتجها العلامة المسرحية ( الشخصية ) في علاقاتها المركبة مع علامات العرض الأخرى السمعية والبصرية ، فالخطاب النقدي الحديث ينشغل بالقدرة التواصلية لعلامات العرض مع المتلقي أكثر من إنشغاله بأمور ثانوية أخرى ربما كانت في صدارة المناهج النقدية التقليدية سابقاً .

إن هذا الفصل الذي مارسناه في قراءتنا هذه لعلاقة النقد المسرحي بعمل الممثل فصل تعسفي لأغراض منهجية وإلا فإن هذه الأوجه الثلاثة للعلاقة في حقيقتها مندمجة مع بعضها البعض ضمن التوازي الطبيعي بين النقد كخطاب تحليلي وبين التمثيل كخطاب تركيبي ، بل أن فرصة إكتشاف علاقات جديدة ستظل مفتوحة على مداها ، وليست قراءتنا إلا موجّهات أولى للشروع بعملية البحث والتقصي النقدي .

 

المصدر: مجلة الفنون المسرحية – ياسر عبد الصاحب البراك 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *