المسرح العربي وتجديد خطابه الفكري مع الآخر

لايزال المسرح العربي إلى وقتنا هذا يقف على مسافة شاسعة من منطقة حضور المسرح العالمي، ولن يتمكن من ردم هذه الهوة إلا باستنهاض كافة الوسائل التي تدعم وجوده المناطقي أولاً، ومن ثم الدفع به نحو الالتحام بجسد المسرح في العالم، لا كإضافة أو كهامش، أو أن يبقى وعاء لثقافات ورؤى وأطروحات، أو أن تُحمل على ظهره أساليب وأشكال ينقلها دون وعي أو إدراك؛ بل يجب أن يكون مسرحاً يتفاعل كعنصر أساسي لا تكتمل المعادلة المسرحية إلا به. فالمسرح العربي متأثر على الدوام، ناقل، مقلد، لا خالق أو مصدر لنظريات يتبعها الآخر ويتناقلها ويتناولها.
إن هذا الغياب عن مساحة الضوء، ترجع أسبابه أيضاً إلى الاكتفاء بما هو موجود، والانكفاء عليه واستهلاكه، بل إعادة اجتراره في كل مناسبة، هذا الأمر خلق حالة من الجمود للفكر والقبول بالتبعية، دون العمل على استحداث فكر جديد، هو بحاجة على الدوام إلى إستراتيجيات وخطط جديدة، فالتبعية التي آل إليها مسرحنا، أو بمعنى أدق، بدأ بها مسرحنا رغم كل محاولاته تجاوزها والتملص منها، عادت مرة أخرى لتعيدنا إلى المربع المكروه الأول.
ولم تتعدَ تجارب مارون النقاش وتوفيق الحكيم ويعقوب صنوع ويوسف إدريس وعلي الراعي وسعدالله ونوس وعز الدين المدني والطيب الصديقي وعبدالكريم برشيد ويوسف العاني وإبراهيم جلال وقاسم محمد وغيرهم؛ عن كونها محاولات أسهمت في البحث عن نموذج مسرحي حاول إيجاد دروبه إلى العالمية، إلا أنها أيضاً جاءت خجولة، فهي توقفت عند حدود النقل للمثمر من تجارب فاختانكوف وبسكاتور ورايندهارت وكوبو وبريخت ومايرهولد وآرتو وغروتوفسكي وستانسلافسكي وبروك وأبيا وغيرهم. لقد كان ذلك تبنٍّ لا ولادة، صورة لا أصل، نظراً للمرحلة التي مرت إبّان الاحتلالات المتتالية والمتعاقبة على المنطقة العربية بمناشئها المتنوعة، وباختلاف غاياتها وأساليبها، والتي مع كونها أرخت عجلة التقدم والنمو والتطور في مختلف المجالات، ومنها مجال المسرح، باعتبار أن الاستعمار في أحد وجوهه هو غزو ثقافي؛ إلا أنه مع وجود تلك الغايات التي جاء بها ومن أجلها، منح المنطقة فرصة التعرف على المسرح الوافد والمنقول لمشاهدته واستيعابه والتعرف عليه عن قرب، عبر الفرق المسرحية التي كانت تأتي للترفيه عن جيش المستعمر.
وعند قراءة تاريخ المسرح في العراق مثلاً، نلاحظ أنه انتعش من خلال الكفاح السياسي وحركة الجماهير الشعبية والمسحوقة وقتها. ولهذا ولد في أحضان اضطهاد الحكومات المستعمرة له وتأثير الشعب عليه، وهذا الأمر ترك إرثاً استقى منه المسرحيون العراقيون وتأثرت كذلك أساليبهم في الطرح بالأساليب الأوروبية المعتمدة آنذاك من حيث التشكيل الفني ووسائل العرض. وحين استقدمت السلطات البريطانية الموجودة في بغداد بعد احتلالها العراق عام 1914 فرق (جوقة التمثيل)، لم يكن هذا الطقس مألوفاً لدى الفرد والفنان العراقي على حد سواء. وكان الكثير من المتفرجين لا يفهمون اللغة التي مثلت بها، ولكنه لم يمنعهم ذلك من الاستمتاع به، لأن إبداع الممثلين كفاهم مؤونة اللغة ومعرفتها. فالناس آنذاك كانوا يتركون بيوتهم خصيصاً من أجل الذهاب إلى المسرح ومشاهدة ما يدور فوقه من فعاليات، وهذا يعني أنه كان هنالك نوع من التعاطف مع هذه الظاهرة، وأنها كانت تقدم من قبل المحتل الإنجليزي وبلغته. وهذا كان كافياً لأن يلفت أنظار الفنان العراقي آنذاك، الذي لم يتعلم يوماً في مدرسة خاصة للتمثيل؛ التقنيات التعبيرية لهذا الفن الذي يشتمل على الكثير من الأدوات الاتصالية بالمجتمع. وينطبق هذا القول أيضاً على الفترة التي عاش خلالها الفرد العراقي متأرجحاً ما بين احتلالين (العثماني والبريطاني)، أي أنه خضع بشكل لاشعوري وشعوري لتأثير هذين المستعمرين، واستطاع عن طريقهما أن يكتشف المسرح بمعناه الغربي. ولقد ذكرت المصادر والكتب التي اهتمت بتدوين هذه الفترة من التاريخ، أن المدارس اليهودية الخاصة التي كانت في بغداد بعدما شاهدت عروض الجوقة التمثيلية الإنجليزية، قامت بتقليدها وذلك بتقديمها مسرحيات باللغة الإنجليزية. وباعتبار أن المسرح هو تاريخ الشعوب كشف تاريخ المسرح في العراق نوعاً من التعددية في الأساليب والطروحات والمعالجات الفنية التي انتعشت بموجب الأحداث الاجتماعية والثقافية والسياسية المتقلبة التي عاشها العراق، وذلك كله كان نتيجة حتمية للاحتدام المستمر مع الفكر الغربي من خلال البحث على الدوام نحو الانصهار بالمسرح مع باقي أنحاء العالم. هذه الرغبة وهذا الجنوح العالمي، لم يكن في العراق حصراً، بل في كل منطقة زارها محتلّ، حيث أدت تلك الثقافات الجديدة الوافدة والناتجة عن المشاهدة والاختلاط، إلى تغيير مفاهيم ثقافية كثيرة، فأصبح العالم العربي في تلك الفترة وعبر بوابة الاستعمار، شبه موحد مسرحياً، باعتبار أنه أخذ التجربة المسرحية الاستعمارية بنفس النمط والأساليب والأشكال التي كانت تعرض من خلالها المسرحيات في بلاد المستعمِر وباقي دول العالم، غير أن المسرح بقي لصيقاً بهالة من علامات الاستفهام التي أحاطت خطابه وغاياته، كونه قدم للذات العربية عبر قطار الاستعمار والإمبريالية، مما شكك في القيم الحضارية والإنسانية والثقافية التي احتضنها.
كذلك، فإن الاضطهاد أو التهميش أو المنحى اليساري الذي عانى بعض متبنّيه من أهل المسرح العربي وفي حقب زمنية متفاوتة من القرن المنصرم؛ جعلت من هؤلاء يفرّون بحياتهم أو بمسرحهم إلى الخارج، خاصة دول أوروبا الشرقية المتشربة بالمسرح تاريخاً وعمقاً واستعمالاً، فمنهم من أكمل اشتغالاته على المسرح، ومنهم من أتم دراسته في المعاهد والكليات الأكاديمية، ليعودوا إلى بلدانهم محمّلين بثقافات مختلفة وأساليب حداثية غيرت مفاهيم وخطابات المسرح القديم، وحاولت جاهدة إرساء قواعد وأسس جديدة لوصل مسارح بلدانهم بالمتطور والمتقدم من مسارح أوروبا في علاقة لم تكن بالوهن الذي هي عليه الآن.
وبغض النظر عن قيمة العمل فنياً، نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نرمي بالكثير من أحمال الرؤى القديمة، وأن نعمل على قلب أرضية الفكر، من أجل أن تكون صالحة لزراعة مفاهيم جديدة لضمان الوصول إلى خطاب مسرحي متكامل غير منقوص، يلحق بركب العالمية، منصهراً ومندمجاً ومتآلفاً.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *