«أنا وأنت» بهجة ما قبل المعركة فى «الشقف» و«صدى الصمت» / هند سلامة

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

انطلقت الاثنين فعاليات الدورة الـ25 لمهرجان القاهرة الدولى للمسرح المعاصر والتجريبى على خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا، تعتبر هذه الدورة استثنائية بكل المقاييس لما تحمله من فعاليات متعددة ومتنوعة، بدءًا من حفل الافتتاح الذى قدمه المخرج خالد جلال بطولة الدفعة الثانية من استوديو المواهب لمركز الإبداع الفنى وفى إطار كلاسيكى شديد الرقى والانضباط اصطف الممثلون فى مقاعد وكأنهم بنيان مرصوص ثم نهضوا واحدًا تلو الآخر، كى يقدم مونولوج من أحد الأعمال المسرحية الشهيرة..

ولم يكتف جلال باستعراض مهارات ممثليه التمثيلية بل قدم خلال العرض هؤلاء الممثلون مهاراتهم الغنائية والناطقة بلغات متعددة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية؛ وهو ما ساهم فى إبهار وجذب انتباه الحضور وخرج العمل بشكل فنى يليق بافتتاح مهرجان دولى للمسرح التجريبى.
كما حرص المهرجان خلال حفل الافتتاح على تقليده الدائم بتكريم عدد من الشخصيات المؤثرة فى الحركة المسرحية منهم اسم الفنان الراحل ناجى شاكر، الفنان عزت العلايلي، الكاتب والمؤلف المسرحى الأمريكى ديفيد هنرى هوانج، مصممة الرقصات العالمية من أصل سنغالى جيرمين أكوجني، صاحب المؤلف المهم مسرح ما بعد الدراما «هانز ثييز ليمان، أستاذ الدراسات المسرحية والرقص جابريل براندستتر ألمانيا، الممثلة والمخرجة السويسرية لفرقة مومنشانز إيطاليا.

«أنا وأنت»

لم يتوقف التجريبى عن البحث والتنقيب على مدار أعوامه الخمسة والعشرين عن تقديم  المزيد من التجارب والابتكار فى عروضه المشاركة سواء فى ظل وجود تسابق أو العكس؛ حيث حمل عرض الافتتاح خلاصة الجمع بين الفكر والخيال والخروج عن كل معتاد ومألوف فى فن «البانتومايم» أو التمثيل الصامت، قدم فريق «مومينشانز» من سويسرا عرض الافتتاح «أنا وأنت» تأليف فوريانا فراسيتو وإخراج ماركوس سيمين، تجاوزا فيه حدود الخيال فى المسرح الصامت، أو موسيقى الصمت كما أحبت أن تطلق عليه مخرجة العرض، ففى هذا العمل أنت على موعد مع اللعب على وجدانك بشاعرية تامة فى حركات وإيماءات وتشكيلات فنية شديدة الروعة والإتقان نفذت بتقنية عالية الجودة والإبهار، مزج فيه صناع العمل بين البهجة والابتكار فى تقديم تشكيلات لكائنات بحرية فتارة تشعر كأنك دخلت معهم إلى عالم البحار ونجحوا بإبداع متقن الصنع فى الإيحاء للجمهور بحياة الكائنات تحت الماء، قدموا تشكيلات لقناديل البحر ودودة زاحفة وأسماك معلقة، ثم دخلنا إلى مستوى آخر من المتعة وسرعان ما تحول الممثلون إلى آلات موسيقية عازفة بلا أوتار مسموعة فهم يلعبون على إيقاظ الموسيقى من داخل الحركة والصمت؛ تقنية مسرحية شديدة العمق والروعة والصعوبة استخدامها هؤلاء دون أن نسمع سوى همس أنفاسهم على المسرح فهم حققوا ما أرادوا من ضحك ومرح وموسيقى غير معزوفة فى سرعة وانضباط تشكيلاتهم الحركية بتجسيد كائنات زاحفة ثم طائرة ثم شكل نجمة وقناديل البحر ثم كائنات خرافية، بجانب تفاعلهم مع الجمهور باستدعاء الحاضرين لرسم أشكال فنية على قناع أحد الممثلين وهكذا ظل الممثلون يتخذون أشكالًا متنوعة ومتبناينة فى لوحات متفرقة ظهرت فيها تقنية عالية الجودة وأبدع هؤلاء بتطوير فن المايم بشكل مسرحى شديد الدهشة والابتكار فلم يقف الممثلون كى يؤدوا حركات تمثيلية أمام الجمهور كما عهدناه بفن المايم بل دخلوا فى مستوى آخر من الخيال والتحليق ولعبوا على إخراج حالة البراءة والطفولة الكامنة داخل كل منا سواء كبار أو صغار فهو عمل صالح للجميع كما تؤكد مخرجته فلوريانا فراسيتو ف«أنا وأنت» مهما بلغ بنا العمر ومهما عصفت بنا الحياة لا يزال بداخلنا رغبة فى العودة إلى البهجة وبراءة الأطفال فى الضحك واللعب والتحليق وبالفعل نجح العمل خلال مدة عرضه الساعة ونصف الساعة فى تساوى الجمهور معا فى مشاعر البهجة والرغبة فى اللعب خاصة عندما تبادلوا اللعب بالبالون مع الممثلين على المسرح.

«الشقف»

كما ذكرنا تعد هذه الدورة استثنائية بكل المقاييس سواء فى تعدد فعالياتها أو فى شكل ومستوى العروض المختارة، حيث وضع المهرجان محور شديد الخصوصية وربما هو المحور الأعمق وصفا لحال وطننا العربى «المسرح تحت دوى القنابل» أو مسرح الحرب وبالطبع ليس من العسير توقع الشكل الفنى او القضايا التى نحن بصددها ضمن عروضه، لكن كانت المفاجأة أن يتدرج المهرجان فى مستوى الأعمال المقدمة بمعنى أن تبدأ فعالياته بعرض شديد البهجة والمتعة كنوع من منح الأمل بضرورة التمسك به وإيقاظ الرغبة فى الابتسام والضحك والانطلاق رغم ما نعانيه من ويلات الحروب، ثم بدأت فعالياته فى اليوم الثانى مباشرة بعروض المعاناة والتى بدأها عرض «الشقف» تأليف وإخراج سيرين قنون ومجدى بومطر، إنتاج مشترك بين تونس وكندا، «الشقف» باللهجة التونسية تعنى الهجرة السرية أو الهجرة غير الشرعية، يتناول العمل هذه القضية بهروب أو هجرة مجموعة من العرب والأفارقة إلى دولة إيطاليا بحثا عن أحلامهم المفقودة فى أوطانهم ولعبت المخرجة بذكاء فى الجمع بين أكثر من فنان عربى فى عمل واحد فتعددت اللهجات والرغبة واحدة أو والموت واحد، فهم جميعا فى النهاية يواجهون الموت بعد ضبط القوات الإيطالية لهم، فعلى هذا المركب كانت حاضرة الجنسيات السورية واللبنانية والتونسية والأفريقية، مجموعة من المهاجرين البؤساء يأسوا من واقع بلدانهم تركوها وهجروا أحلامهم على أرضها متطلعين لتحقيقها فى بلدة أخرى، هناك أم سورية خرجت بحثا عن ابنها التى تريد أن تراه يوما مع عروسه وحفيدها، وفتاة خرجت لتحقيق حلمها بأن تكون راقصة فبين صراع الحياة واليأس والرغبة فى الموت ثم خشية القدوم عليه تدور احداث هذه المسرحية على مركب دائرى كبير ركبه أبطالها، قدم الممثلون أدوارهم بمهارة واقتدار خاصة الأم السورية التى كانت أشد ألمًا وحزنًا على ابنها استطاعت هذه السيدة دمج الجمهور معها فى معايشة واقعية وفتح خياله على الدخول فى أحلامها وكأنه يشاهد حلمها أو يحلمه معها كما تمنت وكذلك حافظ الممثلون جميعًا على ضبط حركة اهتزاز أجسادهم فى حركة مستمرة للإيحاء بحالة السفر على مركب شراعية عتيقة متهالكة ربما كانت صورة لواقع ركابها فلم يتخل الممثلون عن حركة أجسادهم المستمرة والمهتزة أو المرتعشة دائمًا حتى أثناء نومهم ويعتبر العمل استغلالًا قويًا وواضحًا لمهارات ممثليه الجسدية والأدائية.

«صدى الصمت»

مستوى آخر وشكل أكثر تطورًا فى تناول الحال العربى أو فى التعبير عن «مسرح الحرب» قدمه عرض «صدى الصمت» لفرقة المسرح الكويتى تأليف قاسم مطرود وإخراج فيصل العميري، فكر وإبداع جديد للمآسى التى تسببت فيها الحروب وربما جمع العمل بين الألم والكوميديا والسخرية فى مزج فنى شديد الروعة والإتقان بديكور منزل أسود استقر فى خلفيته رجل هزيل مريض يجلس على مقعد متحرك ومعلق بيديه محلول مائى شبه منتهى يعيش بين الحياة والموت؛ وفى مقدمة المسرح يلعب دور الدراماتورج أو الشخصية التى تستعرض الأحداث ومشاهد المسرحية لاثنين مغتربين فقد كل منهما ابنه فى الحرب رجل وامرأة منع تواصلهما حاجز اللغة لكنهما اشتركا فى نفس الهم وهو ما مكنهما من استعادة التفاهم والتواصل امرأة تعيش وحيدة فقدت زوجها ولا تعلم اين هو كما فقدت ابنها بسبب الحرب، وكذلك يجلس إليها رجل يحمل نفس الهم والألم ويبحث عن قتلة ولده حتى يظن أنها أحد قاتليه، يستعرض العمل فى مشاهد متتالية حالة الحيرة وعدم التفاهم بين هذا الرجل والمرأة إلى أن يصلا إلى نقطة التقاء وتوافق على أمر واحد الحزن على الفقد وفراق الأبناء؛ حمل العمل شكلًا تعبيريًا مجازيًا عما يحمله قلب هؤلاء من ألم وعجز عن مواصلة الحياة، باتخاذ هذا الرجل وضع الجلوس الدائم فى عمق المسرح كنوع من انعكاس لقلة حيلتهما فى عجزهما المتواصل وكأن صمته وعجزه هو صدى صوت هذين المغتربين، إضافة أخرى شديدة الإبتكار والتميز للدراماتورج أو الرجل المسؤل عن تغيير أوضاع وتتابع مشاهد الممثلين داخل المسرحية وحكى الأحداث والتعليق عليها بأداء صوتى وآلات إيقاعية التى استخدمها طوال العرض بالعزف الحى وأدائه لأصوات متعددة وتمكنه من اتقان إيقاعات صوتية مصاحبة للعرض مما اضفى عليه حالة من المتعة والبهجة برغم مشاعر الحزن والألم فهو عمل فنى متقن الصنع جمع بين مشاعر متضاربة تاركًا لك بنهايته بصمة «ألم» لا تحمى.

فعاليات المهرجان

يشارك عدد آخر من العروض العربية ضمن فعاليات محور «مسرح الحرب» من العراق وفلسطين بينما اعتذرت سوريا عن المشاركة لتعذر وصول الفريق فى الموعد المخصص له، يكرم المهرجان هذه الدورة يمنح ميداليته الفضية لكل من الفنان أسعد فضة سوريا، حاتم السيد الأردن، جواد الأسدى العراق، سامى عبدالحميد العراق، عبد الله السعداوى البحرين، عبدالعزيز السريع الكويت، عزالدين المدنى تونس، عبدالكريم برشيد المغرب، فهمى الخولى مصر، محمد أدار الجزائر، محمد سلماوى مصر، هدى وصفى مصر، كما يقدم المهرجان عدد من الورش الفنية فى مجالات التمثيل لجايلز فورمان بريطانيا، الرقص المسرحى فيرينك فيهير المجر، ورشة فى أدائية السعادة ويلى براجر-ايفا بلغاريا، الكتابة المسرحية اريك التورفر سويسرا، ورشة مومنشانز فوريانا فراستو سويسرا إيطاليا

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *