التنوع الثقافي وتجليات العمل الفني/ د. عواطف نعيم

المصدر/ الصباح/ نشر محمد سامي موقع الخشبة

يعد المسرح ومنذ نشأته الاولى الحاضنة التي تعكس روح المجتمع الذي تتمثله عبر العروض المسرحية المتحركة داخل فضاءاته والفعاليات المتنوعة من رقص وغناء واوبريت وفنون كوريكرافية وايمائية التي تاخذ طريقها للظهور والتجلي فوق خشبته، وقد تقدم الفنون بتنوعها وتعددها عبر فضاءات تحورت وتحاورت واختلفت في تصميمها وتكوينها ومعمارها سواء أكانت مفتوحة أو مغلقة، دائرية أو مستطيلة أو مربعة أو خالفت التصاميم الهندسية المتعارف عليها، وسواء أكان الهدف الاساس في توجهها يحيط بها او يتوسطها أو يحدق بها جالسا أو واقفا من الاسفل أو في الاعلى، حاضنة تدور داخلها حيوات متنوعة فكرا منطوقا، مرئيا أو مصورا تعبيريا أو تشكيلا علاماتيا أو حضورا دلاليا متحولا، المسرح حيوات متعددة الاوجه والتشكيل متنوعة اللغة والتصويت مختلفة الحضور والسلوك والطقوس ، اللغة فيه مسموعة أو مهموسة أو حركية، ايمائية، اشاراتية، مبثوثة عبر الموسيقى واللون، مرئية عبر الصورة التعبيرية والتكوين لكنها في كل حالاتها المتعددة ومتغيراتها الدالة تتمثل ثقافة ذاك المجتمع الذي تحضر منه أو تلك الجماعة التي تنتمي اليها وتتجلى من خلالها خلاصة ما تتمثله وتضمه وتختزنه من  تراث وموروث ومخزون معرفي واجتماعي، أي أن المسرح كفضاء عمل جامع لتعددية الفنون يحمل تنوعا معرفيا وطقسيا نتوغل من خلاله الى مفاهيم ورؤى وتصورات الحياة المعاشة لمجتمعات وتجمعات مختلفة كلاسيكية أو معاصرة وحتى مجتمعات متخيلة افتراضية، المسرح بوابة الولوج الى المعرفة ولاسيما في تقديم الموروث والفولكلور والتراث والطقوس بكل الوانها بوصف التنوع الثقافي لمجتمع ما هو كل تلك الممارسات الحياتية والفكرية والاجتماعية التي تتراكم مع الزمن لتكون موروثا وتراثا وفولكلورا وطقوسا حياتية والتي تكون خصوصية لها تميزها عن غيرها من المجتمعات الانسانية، لذا قدم المسرح خلال عمره ومسيرته عبر مبدعيه والعاملين بين كواليسه كل ما يتعلق بالانسان والمجتمع وجمع كل الالوان والاطياف والرؤى وكان ميثلوجيا الشعوب وأساطيرها حاضرة ومدهشة داخل فضائه وهو بذلك قادر على خلق حالات التقارب والتجاذب والالتقاء مع المتلقين في كل مكان في العالم، لعل واحدا من الاسباب التي جعلت من المسرح فنا منفتحا هو قدرته على استيعاب وتبني الافكار والحيوات المتنوعة والمختلفة والغرائبية وتقديمها عبر عروض داخل فضائه، الفن التشكيلي، فن الرقص والموسيقى والغناء، الفن التعبيري عبر الجسد رقصا وكروكرافا وايماءً، الفن الاذاعي والتلفازي والسينمائي، وهو قد نجح في التعامل مع كل أنواع العروض والفنون والثقافات من خلال مفكريه ومنظريه وكتابه ولاعبيه، قدم التأريخي والمعاصر التجريبي البحثي كما قدم الكلاسيكي الرصين والسحري الفنطازي وخاطب الكبار، كما توجه نحو الصغار بسحر فضائه وابهار ما يحتوي وينجز، فهل كان المسرح قادرا على التنوع في تقديم عروض تضم مختلف الثقافات عبر تلك العروض والفعاليات المسرحية والفنية في كل تجلياتها ووقع تأثيرها في حالته تلك؟.

هذا السؤال يقودنا الى استعراض بعض من تاريخ مبدعيه وصانعي الحياة على خشباته من الذين عملوا ليس فقط على تقديم عروض مسرحية ذات توجهات محددة بل والذين عملوا على تطويره وانضاج تجربة العرض المسرحي ومفهوم المسرح.. فاذا كان سوفوكليس في توجهه الفني مجربا وباحثا (حرك المسرح مسافة كبيرة نحو الشكل المسرحي الاول الذي ساد الغرب فيما بعد)، فان مفهوم التجريب والبحث قديم وظاهر قدم المسرح ووجوده، أي أن المسرح فضاء مفتوح منذ نشأته للبحث والاضافة والاكتشاف، ومنذ زمن الاغريق وحتى يومنا هذا لم يتوقف البحث والاجتهاد في التطواف والغوص داخل فضاءاته، ومن هنا جاء تعدد المدارس وتنوع  المذاهب التي عملت هي الاخرى على صيرورة وبلورة هذا الفن، حتى بات ظاهرة مثيرة وفاعلة وشاغلة اجتماعيا وجماليا.. ورغم كل الظروف التي مرت على البشرية وعلى تأريخ هذه الظاهرة أي المسرح الا أنه لم يتوقف أو يندثر على العكس كانت تيارات العنف والحرب تولد اتجاهات مسرحية وتبدع مدارس مسرحية تعمل بدورها على تغيير وتجديد هذه الظاهرة، وقد تختلف حالة المسرح من بلد الى آخر حسب طبيعة ما يقدم ويحاور ويبث من أفكار ورؤى وحسب طبيعة الجمهور الذي يتلقى ويتفاعل.
أحيانا يكون العرض المسرحي مغيرا أو محرضا قادرا على اثارة حالة من التمرد والثورة وأحيانا يكون هادئا ينثر روح المتعة ويشيع حب الفرجة لا أكثر.. وهو بهذا رهين بتلك الشخصيات  التي تقوده وما تحمله من أفكار وما تطرحه من رسائل بوصف المسرح يهدف الى بث خطاب معرفي وجمالي، عندما نتحدث عن المسرح بشكل عام لابد لنا من أن نتوقف عند المسرح العربي رغم معرفتنا انه فن وافد الا أن المسرح العربي ومن خلال رجالاته والعاملين فيه ومن خلال مريديه والعاملين على تأصيله حضورا وهوية سعى الى أن يكون متأصلا وذا هوية وبصمة تشير وتؤشر ليحمل ويعكس هموم وطموحات ذلك المجتمع العربي (لقد ولد المسرح العربي في عصر متوتر مشحون بالاماني الكبيرة القومية في مختلف المجالات)، هذا يعني أن المسرح قادر على خلق تعارف وتعريف وتجاذب وتلاقح بالثقافات المختلفة وتقديمها عبر عروض مسرحية متنوعة بعضها يغرف من نصوص عالمية كلاسيكية أو حديثة وبعضها يعتمد نصوصا محلية ذات الخصوصية البيئية لكنها قادرة على الانفتاح على ما يجاورها من نصوص انسانية اخرى، أو قد تكون الميثولوجيا والاساطير بكل ما فيها من مقاربة وتشابه قادرة هي الاخرى على التعامل مع ذلك التنوع الثقافي اذ أن الكثير من هذه الاساطير والملاحم والحكايا الشعبية هي قريبة من بعضها البعض  في نواح كثيرة في أجزائها وأهدافها وطريقة بنائها الدرامي.
التنوع الثقافي بكل ما يمتلك من غنى انساني وجمالي يتجلى بينا في العرض المسرحي المعتنى به والمشغول على وفق نسق فكري ومهارة فنية، ولأكون قريبة من هدف الكتابة لابد لي من أن أتخذ من تجربتي المسرحية وسيلة وطريقة لمناقشة أهمية التنوع الثقافي في العرض المسرحي الذي أسعى لتقديمه للمتلقين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم وقراءاتهم اذ أن المخرج وهو يعمل على اختبار وانضاج تجربته  الفنية لتصل الى مستوى المنجز المتكامل والمستوفي لشروط النجاح والتأثير عليه  يدرك أن ما عليه أن ينشغل به لتقديم عمل يخاطب عبر ثيماته وكوداته وجدان المتلقين ويمس مشاعرهم ( الفن ليس محاكاة الفن احساس) ، قد يكون صادما، عنيفا، رومانسيا، متأملا، عقلانيا، أو قد يكون كل هذه الحالات معا، المهم أن ما نسعى اليه من طروحات فكرية واجتماعية ودينية أو جمالية لابد وأن تمر من خلال مصفاة تجعلها محصنة ومؤهلة على التحاور الواعي والواثق في التفاعل مع المتلقين على اختلافهم في الفهم والاستيعاب والتجاوب، فليس كل تنوع ثقافي جدير بأن يقدم لان الثقافة ما هي الا ذلك الخزين المعرفي والموروث الانساني المتراكم من العادات والتقاليد والاعراف وكل ما تداولته الاجيال البشرية في تلاحقها من حكايا وميثولوجيا ومفاهيم، لذا لابد من التأني والتمحيص والانتقاء المقصود والمدرك والعارف بما يراد.

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *