التحول الدلالي للنص البريشتي في عروض المسرح العالمي

قد تكون دراما (بريشت) الملحمية الديالكتيكية تعكس في الاساس وضعاً سياسياً معيناً وأنها “مسرحيات آنية”، مسرحيات ثورية دعت الى الفعل السياسي والى الجدل، وحاجج النقاد البرجوازيون مسرحيات (بريشت) في كونها (نصوصا مغلقة) تعكس الواقع ضمن مساحته الزمكانية فقط ولاتهمل ازاحة للقراءة الاولى (الربيشتية) للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وفق تحولات هذا الواقع المستمر، ويقف هؤلاء النقاد بالضد من فكرة تجسيد نصوص (بريشت) مسرحياً في موقف معظم المخرجين في ضوء استنساخ التجربة (البريشتية)

وخاصة في عروض أوربا الشرقية وألمانيا الديمقراطية سابقاً وهي – حسب النقاد البرجوازيين – نسخ (فوتوغرافية) من عروض مسرح (البرليز إنسامبل)، ولا يمكن الركون لآراء هؤلاء النقاد بسبب من حيوية وديناميكية النص البريشتي واستشرافه وقراءته للحوادث والمشاكل والعلل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فقد كشف (بريشت) عن قوانين الواقع في ضوء موقفه الماركسي ومن خلال تفكيره الفني، وان كل عصر يوظف في الفن ماهو خاص به، وان الجوهر الموضوعي، والحقيقة الموضوعية للاعمال الفنية، تبقى دون تبديل، والتحول هو تحول شكلي يرتبط بالرؤية الاخراجية التي تشكل عناصرها من سينوغرافيا وأزياء وشخصيات وضوء وقراءة جديدة محايثة للواقع، ولم يتوقف (بريشت) ضمن أنساق العلاقة التأريخية الجامدة وانما اخذ يحرر نصه من رقبة المحددات الزمكانية والايديولوجية، بأجراء تعديلات مستمرة على نصوصه من حذف وأضافة بما يتساوق مع التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فوضع (بريشت) مثلاً امام مسرحية (بنادق الام كارار) التي تأخذ شرعيتها وتأثيرها من التطابق مع موقف أجتماعي وسياسي معين – مهمة محدودة، لأن العلاقة التاريخية الحتمية لاتوضح من المسرحية نفسها، فأسباب كتابة مسرحية (الام كارار) التي تعالج تفاقم التناقضات الطبقية في اسبانيا الى درجة الحرب الاهلية، وكان وقتها من المهم كسب مناضلين من أجل قضية الشعب الاسباني، وحينما قدمت المسرحية في السويد عام 1938، أثيرت مناقشات عديدة حول ما اذا كانت نتيجة القتال في اسبانيا تفند المسرحية، وقد أضاف (بريشت) الى المسرحية فيما بعد أطار حدث جديد – مكون من تمهيد وخاتمة – لكي يضعها في العلاقة التاريخية (1)، وكثيرة هي الاضافات التي وضعها بريشت على نصوصه تدريجياً تساوقاً مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم، وهذا مايجعل نصوصه من النصوص الديناميكية ذات الفاعلية القرائية المستمرة، فمعالجة (بريشت) للتحولات يتأتى من اختياره لموضوع ساخن وجدلي لايتركه (بريشت) وانما يطور من ميكانزماته الداخلية ليدافع عن قيمه الدرامية ولايفقد طاقته التأويلية، فهو يعيد كتابة مسرحية (غاليلو غاليلي) ثلاث مرات لأجل هذا الهدف، ففي أهم فارق بين الكتابة الاولى والثانية هو عملية نكران (غاليلو) لأكتشافه الداحض للنظرية (الكوبرنيكوسية)، ففي الكتابة الاولى كان المشهد الاخير مختلفاً فغاليلي كتب خطاباته في السر، وحين أتى تلميذه لزيارته، يدبر (غاليلو) الأمر بحيث يجعل تلميذه يهرب مخطوطته عبر الحدود، فنكرانه قد أتاح له خلق عمل له أهمية مركزية، أما في الكتابة الكاليفورنية أي (بريشت) عندما كان في منفاه الامريكي، فنرى (غاليلو) يقطع حديثه مع تلميذه المادح لكي يبرهن على ان نكرانه كان جريمة وان كتابه مهما كانت اهميته لايبرر ذلك النكران أبداً (2).

تفسر الكتابة الثانية لـ (غاليلو غاليلي) لعدم نكران (بريشت) لماركسيته داخل منفاه الرأسمالي، وعليه ان يدافع عن طروحاته الاشتراكية (اللينينية) على الرغم من وجوده في منفى يعمل ويتبنى غير هذه الايديولوجية التي يمكن ان تؤدي الى مغادرة أمريكا، لو أنها أعلنت بشكل تصدير وتبشيري واضح.

أما الكتابة الثالثة لـ (غاليلو) فهي تختلف عن الكتابتين الأوليتين في انها تعطي أهمية لـ (نكران) غاليلي لطروحاته العلمية بسبب توظيفها من قبل العالم لتدمير العالم نفسه، وفي هذا اشارة للقنبلة الذرية التي دمرت مدينة هيروشيما اليابانية عام 1945، وأنهت الحرب العالمية الثانية.

وللمخرجين في العالم أثرهم في أثراء مفهوم التحولات الدلالية للنص البريشتي وفق تأثيرات ظروفهم ومرجعياتهم الايديولوجية والفنية، ففي مسرحية (قديسة المسالخ جان) والتي “قدمت في مدينة (شتوتغارت) واخراج (بني بيوسون)، ركز فيها (بيسون)، ضمن اطار تاريخي، لعرض التطور الدوري للاقتصاد الرأسمالي في زمن ازدهار الرأسمالية، ليعيد (بيسون) انتاج صيرورة الرأسمالية ونتائج تأثيرها على الواقع الاجتماعي والاقتصادي لألمانيا الستينات، والتدافع السياسي بين الاشتراكية والرأسمالية، مع انجذاب الشارع الالماني للطروحات الرأسمالية، وذلك لطراوة الحياة في ألمانيا الغربية عنها في الشرقية الفقيرة” (3) ، ويحدث التحول الدلالي في العرض أرتباطاً أصيلاً في الرؤية الاخراجية وعدم خضوع النص البريشتي، للقراءة الآنية فقط، وانما هو نص متحول بتحول الزمكان والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ففي مسرحية (الأم شجاعة) ومن اخراج (بريشت) عام (1945) “يظهر الأبن (ابن الام) وهو في طريقه الى الاعدام، فقد اراد مصمم الملابس الباس الابن ملابس ممزقة واظهاره حافي القدمين، ولكن بعد عشر سنوات اي عام 1964 في اخراج نفس المسرحية برؤية (لوكفيتس) يظهر نفس الأبن في سترة سوداء رسمية غالية الثمن تشبه لباس جنود (س.س) لقد أثرى الأبن في فترة أرتقائه العسكري، بما يظهر تحولاً دلالياً في مدلول الشخصية والمشهد عموماً والذي أصبح الآن يشير الى تجار الحرب وثرائهم الفاحش” (4). وفي اخراج مسرحيات (بريشت) الاولى في حاضنة ليست اشتراكية تظهر هناك تحولات عديدة في الرؤية الاخراجية ضمن انساق التجربة المحلية وأسلوبها الفكري والجمالي في تلك الحاضنة الجديدة، “ففي نيويورك عام 1936 اخرج (فيكتور وولفن) مسرحية (بنادق الأم كارار) وصمم الديكور (موردخاي غورليك)، وأعطى العرض طابعاً مغايراً، لما كان يفكر به (بريشت) في المسرح الملحمي وآلياته فجعل (وولف) موت الأبن في نهاية المسرحية، وتم أعطاء الطابع الروسي التقليدي للازياء، وتم التسريع من وتيرة الاحداث وصولاً الى نهاية الدراماتيكية في موت الأبن، الذي يقع في منتصف المسرحية في النص البريشتي،” (5). وجرى ذلك التحول بسبب عدم وصول مفاهيم المسرح الملحمي وترجمتها بصورة واضحة للمخرج والممثل الامريكي وانغمارهم في المدرسة الستانسلافسكية الاخراجية والادائية الاندماجية، المتركزة في مدرسة (ستراسبورغ) الفنية وأسلوبها الذي وضع الاحداث بشكل تصاعدي (بداية، وسط، ونهاية) لتركيز التأثير الايهامي لذى المتلقي المتغذي على هذا النمط من العروض التي هي انعكاس لحاضنته الرأسمالية.

وبتأثير مباشر من مبادئ (الواقعية الاشتراكية) في روسيا الـ (ستالينية) في تركيز “مفهوم (الحشد الجماهيري) واعتبار البطل الايجابي في مسرحيات الواقعية الاشتراكية هو (الشعب) بصورته وحضوره المتوحد والهادر بوسائله الشعبية من رقص وأحتفال وطقس”، (6) قام المخرج الشكلاني (الكسندر تايروف) عام 1935 بأخراج مسرحية (بريشت) (أوبرا القروش الثلاثة) “فبين يدي (تايروف) تحولت هزلية بريشت المرة الى (كوميديا حافلة بالرقص)” (7) ، ويرى الباحث ان اهتمام (تايروف) بأخراج النص البريشتي جاء لانفتاحه على الحوار الجدلي للطبقات السفلى (البروليتارية) في مجتمع الاوبرا، ومحاولة النهوض بوعيها لجعله وعياً تقدمياً حيث تحول النص الطبقي الى عرض شكلاني (آيديولوجي) احتفالي صاخب. اما على صعيد الشخصية الملحمية فتكونت مساحة اخراجية متغيرة لازاحة الشكل الدرامي للشخصية (الاصل) في النص البريشتي بما يتساوق مع المتغيرات الاقتصادية، فمثلاً قدمت مسرحية (قديسة المسالخ جان) بعد الحرب العالمية الثانية عام 1964 في المانيا الشرقية وبأخراج (هاري بوكنيتش)، ويذكر العرض بكلمات وديكورات متأثرة وبأن المسرحية لاتزال تحتفظ بكل مغزاها في زمننا هذا، الا ان سوق التبادل، لم تعد هي كما كانت في العام 1929، لكنها لاتزال قائمة دائماً وفي كل مكان، وأقام (بوكنيتش)عدة تحولات في الرؤية الاخراجية للنص البريشتي فيما يخص الشخصية الملحمية حيث قام بتحويل شخصية (موللر) البروليتاري الى شخصية رأسمالية تسهم العرض وتستشرف حال المانيا المتحولة تدريجياً الى النظام الرأسمالي، وهدم (موللر) والشخصيات الأخرى الجدار الكارتوني الفاصل بين مدينة المسالخ والمدينة الرثة (Cool في قراءة تبعد مايقرب عن الستة والعشرين عاماً عما سيحصل في عام 1990 عندما اسقطت الجماهير الالمانية جدار (برلين) الذي يقسّم المانيا الموحدة الى المانيتين، في قراءة مغايرة ومعاصرة للمسرحية البريشتية (قديسة المسالخ جان).

وأخرج مسرحية (الانسان الطيب في ستزوان) المخرج (بني بيسون) “وتأثر (بيسون) بالجو الميتافيزيقي والاخلاقي للمسرحية وخاصة في مشهد دخول الألهة الثلاثة ونزولهم الى الارض، حيث قدم اخراجا يقترب من الواقعية السحرية، وكان مشهد الاستعلال عندما ينزل الالهة الثلاثة الى ستزوان محاولين ايجاد مأوى لهم، فأن البيوت كانت تهرب منهم بحركة سريعة دراماتيكية الا منزل (شرقي) الفقير الذي ظل مائلا وراسخا في الارض” (9).

وحذف (بيسون) العديد من المشاهد في النص (البريشتي) وكثف البنية الملحمية وصاغها بتصرف، مما اثار حفيظة (هلينا فايكل) زوجة (برشت) وكان هذا سبب خصامها المزمن مع (بيسون) اذ ترى (فايكل) ان التلاعب بالنص البريشتي دون معرفة، يسيء كثيرا لقوانين (بريشت) في (التغريب) و (الجست) و(المسافة الجمالية)، واثار العرض اعجاب الجمهور الالماني والعالمي الذي حضره في 17/4/1970 على مسرح الشعب في برلين، (10) وفي تقديم اخر لمسرحية (الانسان الطيب) في آذار عام 1976، قامت فرقة مسرح الشعب بتقديمها في مدينة زيورخ السويسرية على مسرح دار التمثيل وقام بأخراجها (مانفريد فكفيرد) ، وقامت الممثلة (تانه رشتر) بدور الانسان الطيب (شنتي) ووضع الموسيقى الفنان (باول ريساو) الذي وضع الموسيقى لمعظم مسرحيات (بريشت) بعد (كورت فايل) وجاءت المسرحية بشكل مغاير للطابع البرجوازي الذي تعيشه البيئة السويسرية وقدمت تأثير القصة الصينية باسلوبها المؤسلب والفقير على روئية العرض(11).

وفي ثاني تقديم للاعمال البريشتية في روسيا قام المخرج (يوري ليوبيوف) بأخراج المسرحية على مسرح (شتشوكين) في موسكو عام 1963، وكان هذا التقديم نسخة مشوهة لتعاليم (بريشت)، حيث لم ترض تلاميذ (بريشت) او نقاده، اذ احتوى على اندماج عاطفي عال لشخصية (شن تي) والقناع (شوي تا) بحيث لم يفصل العرض بين لحظات الاندماج والتقديم في مشهد التحول الشهير(12).

 

المصادر

(1) ينظر: كيته ريلكه فايلر، ارسطو وبريشت، في : قيس الزبيدي، مسرح التغيير، بيروت “دار ابن رشد ، 1978” ص 51

(2) رونالد جراي، بريشت، ترجمة: نسيم مجلي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1972 ص 274.

(3) تمارسورينا، ستانسلافسكي وبريشت، ترجمة: ضيف الله مراد ، دمشق (منشورات وزارة الثقافة ،1994 ص 201)

(4) المصدر السابق، ص 198.

(5) فردريك أوين ، برتولد بريشت : حياته ، فنه وعصره ، ترجمة : ابراهيم العريس، بيروت: (دار ابن خلدون ط، 1981 ) ص250

(6) الكسي بوبون، التكامل الفني في العرض المسرحي، ترجمة: شريف شاكر، دمشق (وزارة الثقافة والارشاد، 1976) ص 77

(7) فردريك اوين مصدر سابق ص 248

(Cool ينظر: المصدر السابق ص 207

(9) فردريك اوين المصدر السابق ص 293

(10) ينظر عبد القادر الدليمي، الانسان الطيب يبعث على مسرح المنصور، في جريدة العراق العدد 2936 بتاريخ 28/9/1985.

(11) ينظر: المصدر السابق .

(12) ينظر: المصدر السابق.

—————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – سعد عزيز عبد الصاحب

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *