خصوصية الإيقاع في العرض المسرحي

يشكل الإيقاع حافزاً داخلياً حسياً ,يفرض نفسه وتنوعاته على كل مفاصل العرض المسرحي, بوصفه يتصف بإضافة الحيوية  للعرض المسرحي ، ان الإيقاع الذي يفرضه النص الدرامي,  يشكل إيقاعا خفياً يستتر خلف الكلمات والألفاظ من تلك الجمل التي يصوغها المؤلف ,إذ يحتوي النص على مجموعة من العناصر الدرامية المتمثلة بالشخصية و الحوار، والفكرة ،و يتضمن هذا النص رسماً عاماً لأفعال المسرحية ،وتحديد مساراتها وكينونة شخصياتها ،ونمط الصراعات التي يتمحور عليها نسيج النص” فالإيقاع النصي هو مفتاح لكل حركة أو إيماءة تتشكل على المسرح، وهو الذي يوحد كل العناصر ويخلق وحدة متناغمة)([1]) وعليه فأن المخرج المسرحي ينبغي أن يؤشر مناطق تواجده في النص المسرحي وفاعلية اشتغاله في العرض المسرحي.” فإذا لم تكتب الجمل في نطاق الإيقاع الذي يحتويه الموقف أو الشخصيات والمكان وما إلى ذلك فأن مشكلة المخرج في مزج الكل في إيقاع ونسق معين تصبح مشكلة كبيرة”([2])

أن هذا التأسيس يعد نقطة انطلاق حرة للتجربة الإيقاعية التي يستنفرها النص ويفعلها المخرج,”فالمسرح التقليدي كما هو معروف يخلق انسجاماً بين أجزاء العنصر المسرحي الواحد أو العناصر بكليتها, وبهذا فان إيقاع النص  فن أحداث إحساس مستحب للإفادةِ من ِجرْسِ الألفاظ وتناغم العبارات واستعمال الأسجاع وسواها من الوسائل الموسيقية الصائتة”([3]) حين يرى البعض من المختصين بأن الإيقاع المحاكي ينظم على وفق اختيار مفردات يؤدي جرسها ذهنياً إلى استحضار الشيء الذي تمثله,فهذا الإيقاع عبارة عن تقليد مقصود لفعل ثاني مقدم بوصفه انعكاساً له وينقسم هذا الإيقاع إلى قسمين .الأول هو ما تفرضه طبيعة العروض المسرحية عندما يحاكي ممثلُ ,ممثلاً آخرًا أمامه بنفس الصيغة ,والثاني هو ما يحاكي به الممثل المخرج حينما يحاول المخرج تمثيل الدور بالصيغة التي يرغب بها ,كما يفعل ذلك (ارتو وبيتر بروك وششنر) .وهو إيقاع لم تكن له جذور تاريخية مسبقة إنما فرضته صيغة العرض وأسلوب الإخراج في المسرح المعاصر.([4]) وعلى ما يبدو فأن هذا الأمر يرتبط بمحاكاة مفردات الكلام عن طريق تمثلها بصور على وفق جرسها. أما الإيقاعية فأنها النتيجة المتأتية من تناغم الإيقاع, لتشكيل جمل كما هو الحال في الموسيقى .

و يرى( الكسندر دين)  بان إيقاعات العرض المسرحي تتماشى مع إيقاعاتنا الداخلية ولعل الإحساس بهذا الإيقاع التي تشكله متناقضات العرض المسرحي يجعل المتلقي ينجرف نحوه بكل أحاسيسه “وهكذا نجد أن إيقاعاتنا تتماشى مع إيقاعات العرض الجاري فما يتعلق  بالحركة الجسمانية والفعلية, وان الإحساس بالدهشة اللذيذة التي نكتشف بها هذه الحقيقة هي إحدى متع التجربة الإيقاعية”([5])

ذلك أن إيقاعَ العرض يحقق ما أطلق عليه المسافة الجمالية والتي تدفع المتلقي في الصالة أن يحرك أصابعه ويضرب بقدميه الأرض ذلك أن الإيقاع  يحرك فينا الإحساس بالمعنى وصولاً لعملية الفهم والإدراك حينما” يرتبط الإيقاع بالمعنى ارتباطاً حيوياً لان الكلمات التي يسند بها المعنى لا تنفصل من أصولها الصوتية”([6]). ولما كان الإيقاعُ في العرض المسرحي متغلغلاً و متشعبًا في كل مفاصل العرض فأصبح ذا أهمية كبرى في التخصيب والاستنهاض والتنامي والسرعة والتنظيم ولما كان الإيقاع حسياً فمن الصعوبة بمكان تثبيت وحداته وانثيالاته في العرض المسرحي.

 وقد قسم الإيقاع إلى “سمعي وبصري ولمسي وشمي وذوقي”([7]) كما وضعت له صفات مما يمكن أن تطلق عليه الوحدات الإيقاعية كما يشتغل بتنوعاته وفق السرعة الإيقاعية المتغيرة ولهذا فقد كانت للإيقاع وظائف مهمة وأساسية بدءاً من بناء المزاج وتعزيز الحالة النفسية ونقل الانطباع وتغيير نمطية المشهد والبناء الإيقاعي لوحدات الفعل العاملة على مستوى الأداء والتواتر ألمشهدي وبهذا فأن الإيقاع يتنامى في نسيج الصورة البصرية والذي يدفع بالمشهد نحو الذروة عندما يحدده الممثل بأدواته وسرعته الإيقاعية, “فالإيقاع على مساحا ت وحجوم المنظر المسرحي بمستوياته اللونية والمساحية  ومداخله ومستوياته الارتفاعية ومخفضاته في التنوع والإحساس بالمسافة والعمق يرتبط بالشعور الحسي الذي يوفر انسجاماً كلياً بين إحساس المتلقي وما تنجزه الصورة البصرية”([8])

فالمنظر المسرحي يشكل متداخلات إيقاعية بين كل مساحاته وتدرجات اللون وتوافق الإضاءة مع حركة وأداء الممثل على خشبة المسرح و توافقاً طردياً مع البعد السنوغرافي ويرى بوبوف ” بأن الإيقاع وتدرجات اللون والإضاءة  يجب أن تكون في توافق وانسجام مع كل ما يجري على الخشبة المسرحية”([9]) هنا تصبح خصائص الصورة البصرية متوافرة على وحدات إيقاعية تفرض ذاتها على كل جزيئات المشهد المسرحي وبالتالي ينعكس هذا التكامل على العرض المسرحي كما أن لخطوط المنظر المسرحي إيقاعا خاصاً بها يتناوب بين الخطوط المنحنية والمستقيمة والمنكسرة والمتعرجة بكونها توحي للمتلقي الإحساس الحركي داخل المنظر الثابت كما هو حال تدرجات الألوان بين الحارة والباردة والتي توثر سايكوفيزيولوجيا على مزاج المتلقي لتحيله إلى منطقة التفسير والتأويل وبذلك يكون المخرج والمصمم  قد حققا معاً إيقاعا يقود الحالة النفسية وصولاً للاستجابة المثلى “فالخطوط الخلابة والألوان والأصوات الجذابة والإيقاعات المثيرة يمكن أن تضفي حيوية على كل فتور نحس به”([10]). ولعل خصائص الضوء وكثافته وانتشاره وتوزيعه يحقق إيقاعا أخر وكما هو مدرك فلا يمكن رؤية الأشياء بمعزل عن الضوء ولذلك يرى (أبيا) بان الضوء والظل متساويان في الأهمية ولعل هذا المبدأ يشكل الأهمية القصوى التي يخلقها الضوء على الخشبة بوصفه لا يتحدد بمجال الرؤيا بل يتسع  ليتمثل بسيمياءيات دلالية مؤشرية ورمزية من شأنها أن تخصص قدراً كبيراً من المعنى يضيف للعرض توليفات لونية وضوئية وكتلية تضاف لما قدمنا له بوصفها خصائص إيقاعية, ويذهب بول كلي إلى أن ” الحركة في الطبيعة من الضوء إلى الظلام ليست فوضوية فالطبيعة تخلط الضوء بالظلام  وذلك عبر نظام السريان المستمر والحركة الدائمة بينهما”([11]) غير أن المسرح يستنفر كل قوى الضوء وزوايا سقوطه وتلوين أضواءه وتكويناته الضوئية في تلوين الفراغ بالنور لاسيما ان الرؤيا في المسرح تقتضي أدق التنظيمات للمصابيح والمناظر المسرحية,بحيث تأتي إيقاعيا لإثارة الإحساس بالدهشة والتأمل ويرى كانت “أن انفعال الإحساس هو صوت الموسيقى وانفعال التأمل هو الفنون التشكيلية”.([12]) وبهذا يعد الضوء واللون والخطوط والمنظر التشكيلي داخل الصورة البصرية منعكس شرطي جمالي يؤكد وجود الإيقاع وتناغماته على مستوى المشهد المسرحي ويضيف بافلوف “عن علاقة الحواس حين يسمع لإيقاع أولا ثم يتبعه دفع حركي عن طريق الفعل المنعكس”([13]) ولهذا فان للحركة والرقص والإيماءة والإشارة, خصائص إيقاعية منسجمة تتفق مع ما يقابلها عن مؤثرات موسيقية أو مقطوعات إيقاعية متنامية, فتنامي الموسيقى يدفع بالتنامي الحركي نحو الذروة, ويعد الشكل الحركي والاتجاه، والسرعة والتنظيم, نواة تتسارع مع الجهد الموسيقي, كأننا أمام إيقاعية متحركة متنامية داخل القصيدة فضلاً عن أن الوضعية الجمالية هي الأخرى تحتكم للإيقاع العام للشخصية, بوصفها سمة تحدد حركة الشخصية وإيقاعها الداخلي فالإيقاع إذن ” حركة متنامية يمتلكها الشكل الوزني حتى تكتسب فئة من نواه وخصائص الفئات الأخرى”([14]) في الحركة المسرحية الجسدية تنتقي حركة وإيماءة وإشارة ما قبلها لتؤسس لما بعدها من خلال ماديتها وطريقة تنظيم وتنسيق وحداتها وكذلك تجربة الممثل الصوتية التي تعبر عن جرس الألفاظ ومنح الكلمة معنى قد يكون تأويلي غير مرئي من خلال المرئي ولذلك نعتبر الموسيقى إحدى المجهودات التي تعبر عن اللازمان واللامكان لكنها تحيل إلى فكرة ويرى (بيتر بروك) “أن الموسيقى تعبر عن المجهول و واللامرئي من خلال طريقة وتنسيق الأصوات حيث تشكل جمالاً يفوق الوصف فالإحداث لا تنقل المرئي لكنها تصوره وتقدم للجمهور تجربة جمالية عما يقع وراء عالمهم المادي”([15]).

———————————————————-

المصادر

([1]) بدري حسون فريد وسامي عبد الحميد.مبادئ الإخراج المسرحي,(بغداد :مطبعة الحرية,1980) ص96

([2])  الكسندر دين. مصدر سابق,ص354

([3]) أبو الحسن سلام.دور الإيقاع في النص المسرحي,ج1 ط2,الإسكندرية ,دار حورس للطباعة ,2005,ص20

([4]) لقاء مع الدكتور عبد المرسل الزيدي في قسم الفنون المسرحية ,الساعة العاشرة صباحا ,بتاريخ 3/5/2010

([5]) الكسندر دين .مصدر سابق ص354

([6])  عبد القادر الرباعي.تشكيل المعنى الشعري.مجلة فصول ,المجلد4 ,العدد 58 , 2005.ص56

([7]) سامي عبد الحميد ، إيقاع العرض المسرحي واستجابة جمهوره, مجلة إسفار ، بغداد: العدد(15)، 1993ص23

([8]) حسين التكمة جي ,مناخات التنامي الإيقاعي في العرض المسرحي,جريدة المستشار,العدد320

([9]) ألكسي بوبوف .التكامل في العرض المسرحي,تر:شريف شاكر,دمشق.وزارة الثقافة والإرشاد القومي.1976,ص128

([10])  Dewitt porker :the principles of  aesthetics,2nd ed(m.y.crofts,1947),p85

([11]) بول كلي.نظرية التشكيل,مصدر سابق,ص57

([12]) فتح الباب عبد الحليم.البحث في الفن والتربية,  القاهرة,عالم الكتب ,1983,ص89

([13]) أبو الحسن سلام.الممثل وفلسفة المعامل المسرحية,الإسكندرية,دار الوفاء للطباعة,2004 ص91

([14]) كمال أبو ديب.في البنية الإيقاعية للشعر العربي.دار العلم للملايين .بيروت ط2, 1981 ص7

([15]) كولين كونسل.علامات الأداء المسرحي.تر:حسين أمين الرباط, (القاهرة:مركز اللغات والترجمة ..1998 )ص233.

———————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – د. سعد محمد راضي 

شاهد أيضاً

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية حـسن خـيون

المسرح متعدد الثقافات، أم مسرح المهجر … مادة بحثية  حـسن خـيون  المقدمة  في قراءة للتاريخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *