أنثروبولوجيا المسرح وسحر الشرق

 سحَرَ المسرح الشرقي التقليدي، بطقوسه وتقنياته وجمالياته، العديد من المسرحيين في الغرب، وأثار اهتمامهم منذ بداية القرن العشرين حتى الآن، مشكّلاً مصدر إلهام لتنظيراتهم وتجديد تجاربهم على مستوى شكل العرض والإخراج. ومن هؤلاء المسرحيين الإيطالي أيوجينيو باربا، صاحب التوجه المعروف بـ “أنثروبولوجيا المسرح”، الذي دوّن تجربته وطروحاته في كتابه “مسيرة المعاكسين” (ترجمه إلى العربية المسرحي العراقي الدكتور قاسم بياتي، ونشرته دار الكنوز الأدبية في بيروت عام 1995).

  التحق باربا في بداية ستينيات القرن الماضي إلى مختبر غروتوفسكي في مدينة “أبولو” البولندية وتتلمذ على تجاربه. وفي العام  1964أسس مسرح “الأودن” في أوسلو، ثم انتقل في العام 1966 إلى الدنمارك، وواصل فيها تجاربه الرائدة، وفي العام 1979 أنشأ “المدرسة العالمية للأنثروبولوجيا المسرحية” التي أسهم فيها أكثر من مئة مسرحي من جميع أنحاء العالم.    يعرّف باربا أنثروبولوجيا المسرح بأنها دراسة التصرفات البيولوجية والثقافية للإنسان وهو في حال العرض المسرحي، أي حين يستخدم حضوره الجسدي والذهني حسب مبادئ مختلفة عن تلك التي تتحكم بالحياة اليومية، وذلك لأن الممثل يستخدم جسده في الحياة اليومية المعتادة بنوع من التقنية المشروطة بثقافته ووضعه الاجتماعي وطبيعة مهنته، في حين يستخدمه في العرض المسرحي بطريقة أخرى، وتقنية مختلفة كلياً. ويسمي باربا النوع الثاني من الاستخدام بالتقنية الخارجة عن المعتاد، ويرى أن المسافة التي تفصل بين التقنيتين في الغرب غالباً ما تكون غير واضحة وغير مدركة، في حين يوجد اختلاف واضح بينهما في الهند مقرّ به وله اصطلاحاته مثل “لوكادهارمي” و”تاتيادها مي”. ويكمن الاختلاف في أن التقنية اليومية تتبع عادةً مبدأ بذل الجهد الضئيل، أي بمعنى الحصول على النتيجة القصوى من خلال توظيف أدنى حد من الطاقة. لكن في التقنية الخارجة عن المعتاد يحدث العكس، اذ تعتمد على البذخ في الطاقة. ولذلك يعبّر المتلقون في المسرح الياباني عن شكرهم للممثلين في نهاية العرض بعبارة “أنت متعب”، إشارةً منهم إلى أن الممثل الذي أثار اهتمامهم وأمتعهم وترك تأثيره فيهم متعب لأنه لم يوفر شيئاً من طاقته، بل فاض في استخدامها. ويستدرك باربا فيميز بين حيوية الممثل وحيوية البهلوان، الأول يستخدم التقنية الخارجة عن المعتاد بهدف منح المعلومات، ووضع الجسد في شكل مطلوب، أما الثاني فإنه يستخدم مهارةً فائقةً تصبو إلى إثارة الانبهار وتحويل الجسد.  وبتأثير من المسرح الشرقي، الياباني خاصةً، لايفرق باربا بين الممثل والراقص، بل يشير إلى أن التمييز بينهما يبدو للفنان الشرقي نوعاً من العبث، في حين أن التمييز القاسي ما بين المسرح والرقص هو علامة من علامات الثقافة الغربية، يكشف عن جرح عميق، وفراغ في تراثه يجازف بجذب الممثل دائماً صوب خرسان الجسد، ويدفع الراقص إلى الولوع بالمهارة والبراعة الفائقة.

    على الرغم من ارتباط ظاهرة أنثروبولوجيا المسرح بأيوجينيو باربا، فإن ثمة من يذهب إلى أنها نشأت وتطورت، جنباً إلى جنب مع الأنثروبولوجيا بوصفها علماً، في أوروبا وأميركا، نتيجةً لأزمة ثقافية وأخلاقية لايمكن فصلها عن التطور الحضاري وظهور الاستعمار. فقد دفعت هذه الأزمة باتجاه البحث عما هو أصيل ونقي وبدائي، إما في أصول الحضارة الغربية في بداية تشكلها، أو في الحضارات الأخرى. وانطلاقاً من هواجس اكتشاف الآخر، والعودة إلى الأصول، والأصالة، والمثاقفة قَدمت تساؤلات حول ثوابت الجماليات الغربية، وتشكلت نواة للانفتاح الثقافي بين الشعوب، ومحاولات لتغذية المسارح المختلفة بتجارب الآخرين.

    لكنني أعتقد، تناغماً مع طروحات إدوارد سعيد حول الاستشراق، أن اهتمامات بعض المسرحيين الغربيين بالمسرح الشرقي تستند، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، إلى منظور استشراقي يزيّف في العديد من الحالات الجوهر الروحي والفلسفي للتراث الشرقي الذي يشكل مرجعاً لذلك المسرح.    

 ——————————————-

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *