بعد أن انطفأت أضواء المسرح العراقي برحيله..بيت المدى يُشعل شموع تأبين فنّان الشعب يوسف العاني – العراق

بعد عرض دام أكثر من نصف قرن، أسدل المسرح ستارته وأطفأ أضواءه، حيث ينتهي العرض، برحيل بطله، فتموت حروف الحكاية، ويولدُ هنا التأريخ والذاكرة، لا يترك لنا سوى أرقام، وأسماء لأيام وأحداث، وإنجازات، وأعمال عظيمة، وجوائز محصودة، ومدرسة مسرحية مميزة وخاصة، هكذا رحل العاني، آخذاً معه ( الشريعة والخرابة، خيط البريسم، المفتاح، صورة جديدة، نجمة زعفران، … وغيرها الكثير من أعماله الرائدة). في حياته، وبعد رحيله، استحق العاني لقب (فنان الشعب ) ، فكما كان مُحبّوه يتجمهرون عند أبواب المسرح، وعلى مقاعده، تجمهروا صباح يوم أمس الجمعة  عند أبواب بيت المدى في شارع المتنبي، وداخل مبناه، لحضور الجلسة الخاصة بتأبينه، حيث شهدت الجلسة حضوراً لم يسبق أن شهدته الجلسات التي أقامتها المدى سابقاً.

إشكاليّات وجوديّة

الحديث طويل عن يوسف العاني، وكان من المُفترض أن يُلخّصه فيلم مدّتهُ  16 دقيقة يختزل سيرة الراحل، ويعرضها ببساطة، ولكن حالت بعض المعوقات دون عرض الفيلم، هذا ما دفع مقدم الجلسة الناقد حسن عبد الحميد إلى أن يقدّم مُلخّصاً بسيطاً عن سيرة الراحل الغني عن التعريف.

وأشار عبد الحميد قائلاً “سيرة العاني حافلة وطويلة، لا يُمكن عرضها خلال جلسة واحدة فنحن بحاجة إلى المزيد من الوقت والادوات، وإلى عمق اكبر للحديث عنه، لكن يكفي أن نقول أن المسرح العراقي يتجسد به، فهو الكاتب والمخرج والناقد والقانوني.” مؤكداً ” أن العاني مثل إشكاليات وجودية من خلال نصوصه، هذه الاشكاليات تمضي الى مناطق أبعد مما أن يفهمها البعض.” 

وبين عبد الحميد ” أننا من الممكن أن نتعرف على العاني من خلال نصوص مسرحية خاصة به سواء كتبها او أخرجها، كالنص الذي سيقدمه الفنان والاكاديمي حسين علي هارف .”

مجنون يتحدّى القدر

قدر، قدر، هذا ما نادى به الدكتور والاكاديمي المسرحي حسين علي هارف، مُغيراً مستوى صورته، ونبرته، ففاجأ الجميع بتقديم نص بسيط من مسرحية ” مجنون يتحدى القدر ” ويقول هارف ” هذا جزء من نص مسرحي كتبه العاني عام 1949 أي قبل ما يقارب 67 عاماً، ولم يكن قد تجاوز العشرين من عمره، وقام بتقديمه عام 1959 في معهد الفنون الجميلة، وقد أخرجه خليل شوقي.” 

وأكد هارف ” لقد حاولت أن أتصور كيف سيقدمها العاني في ذلك الوقت، وحاولت الاقتراب من آراء العاني حين قدمتها، هذه المسرحية هي نص ” مونو درامي ” وهنا يُعد العاني ريادياً، أي انه رائد المونودراما العربية.” 

وأشار د. حسين علي هارف قائلاً ” آثرت على أن أحوّل هذا النص الى كتيب صغير، ومازلت أحاول ذلك.” مُبيناً أن ” العاني يُعد رائداً ايضاً للمسرحية الكوميدية النقدية، والمسرحية الشعبية الواقعية، وهو رائد حتى في ما كتبه عن مسرح الطفل.”

العاني في قصيدة رثاء

يرحل الجسد، وتبقى الروح، تعانق المكان والذاكرة، وتعانق من يحبها، والقصيدة تشبه الروح تماماً لأنها لاتموت، وبقصيدة رثاء حاول الشاعر والمحامي جليل شعبان، الذي عُدّ واحداً من أقرب أصدقاء العاني أن يُخلّده.

وقال شعبان ” العاني من أقرب أصدقائي، كان يتميز بروح مرحة جداً، احتفلت معه  في تأسيس كلية الحقوق، ولم تكُن النكتة مُفارقة له، ولم يفارقه عشق الحياة أبداً.”

ويعود جليل شعبان في ذاكرته قائلاً ” آخر اجتماع في  المركز الثقافي النفطي، وقلت له كيف هو عبود؟؟ فرفع العاني قبعته بمرح وقال مازال يغنّي.”

 فنّان الشعب

يجد المخرج المسرحي صلاح القصب أن ما سيقدمه من حديث عن العاني، سيكون خارج الانساق الاستذكارية المذكورة، ويقول القصب ” لماذا يوسف العاني؟ فهنالك أسماء كبيرة على الخارطة الإبداعية العراقية سواء في الفن، او الشعر، او المسرح، او الرواية، وحتى الرياضة، ولكن لماذا يصل يوسف العاني للعالمية دوناً عن كثير من الاسماء في مجال المسرح رغم أنها عظيمة؟”

وبشرح بسيط ومكثف يحاول القصب الإجابة عمّا طرحه قائلاً ” العاني شكّل حضوراً عالمياً، وخرج على الخارطة المحلية، وذلك بسبب العبور على مستوى القارات، ولأنه يمتلك ثقافة إعلامية.” 

وأضاف القصب ” استطاع العاني الدخول للإعلام العالمي، ومحاكاة الثقافات الاخرى، فهو الفنان الوحيد الذي كان يحضر مهرجانات عالمية، وهذا له تأثير كبير على انتشاره عالمياً.”

ولما للعاني من حضور مميز وخالد في تأريخ المسرح العراقي يقول القصب ” لن ينتهي حضور العاني في المسرح العراقي حتى بعد 100 عام، سيظل هذا الاسم يذكر في المسرح العراقي، وسيبقى طيفه مُلامساً كل زاوية في المسرح.”

ولما كانت تسمية فنان الشعب حقيقة مقارنة مع ما قدمه العاني من اعمال تلامس واقع الفرد العراقي، لهذا يؤكد القصب قائلاً ” علينا أن نؤكد على إطلاق لقب ” فنان الشعب ” على الراحل يوسف العاني وذلك من خلال إقامة مؤتمر عالمي، يحضره مسرحيون عالميون وعرب وعراقيون، ويتم خلال هذا المؤتمر إطلاق هذه اللقب بشكل رسمي على العاني.” 

العاني و(زينب وأنوار)

عن دعم العاني للعنصر النسوي، وللفئات الشابة تحدث الكاتب المسرحي د. عقيل مهدي يوسف قائلا ” اتصلت الفنانة زينب وبعد أن قرأت في إحدى الصحف أنهم بحاجة لممثلة، بالراحل يوسف العاني، واخبرته أنها تريد أن تُرشح لهذا الدور ولكنها على خلاف مع اخيها، وهنا استقبلها العاني لتمثيل فيلم ”  سعيد أفندي ” وقد اندهش بها كل من إبراهيم جلال وجعفر السعدي إضافة الى العاني.”

وأكد مهدي قائلاً ” لم تكُن زينب الوحيدة من الفنانات اللاتي وقف معهن العاني، أيضاً دعم الفنانة أنوار عبد الوهاب التي طلبت منه ان تدخل وسط الفن منذ أن كانت طفلة.”

وختم الكاتب عقيل مهدي كلمته ” إن يوسف العاني نهج طريق إبراهيم جلال من خلال إثباته لحالتين مهمتين في خلق مسرح حقيقي وهما ( الانفتاح على المرأة الموهوبة المثقفة، والانفتاح على الجيل الشاب الجديد) ، وبذلك استطاع العاني كسر تابو الجمهور الذي يأتي دون إسفاف لزيارة المسرح، الذي يجذبه المخرج المبدع، وقدم مسرحاً راقياً باللغة الفصحى والمحلية.”

 دراسته ضمن الثقافات النقديّة

وبعيداً عن يوسف العاني الذاكرة والانسان، اختار الناقد د. محمد أبو خضير الحديث عن يوسف العاني التجربة الكتابية قائلاً ” بغض النظر عن المعلومات التاريخية أجد أن هنالك خطاً من النُسق الثقافية يمكن الاحاطة بها في مسرح يوسف العاني، حيث شطر العاني من خلال مسرحه الثقافة العراقية الى شطرين، بين الموروث الشعري اللفظي، والمسرح الواقعي.”

وأكد أبو خضير ” أن العاني حافظ على الملفوظ العراقي، وتمكن من مد جسر الاتصال بالمتلقي، من خلال قضايا تعيش بها الذات العراقية، وهذا نجده من خلال النظريات اليسارية والماركسية التي نجدها دائما ضمن أعمال ونتاجات العاني، وهنا خُلقت الجدلية بأعمال العاني.” مُشيراً ” من خلال هذا يمكن أن نسمي العاني بالقارئ الضمني لنظريات النقد، ولهذا يستوجب دراسة العاني ضمن الثقافات النقدية.”

 

لماذا حضر العاني في الذاكرة دوناً عن الآخرين؟

عن مراحل تجارب العاني، لم يبتعد الفنان والاكاديمي المسرحي د. أحمد شرجي عن دراسة الراحل يوسف العاني كتجربة كتابية مسرحية حيث قال “هنالك مرحلتان مهمتان في تجربة العاني الكتابية، الاولى هي المرحلة ” الواقعية ” مثل ” رأس الشليلة، وأنا أمك يا شاكر ” وضمن هذه التجربة، شبه الناقد المصري علي الراعي الراحل يوسف العاني قائلاً ” مكانة العاني بالعراق تضاهي مكانة توفيق الحكيم في مصر.” إلا أن العاني رفض هذا التشبيه، ذاكراً أن الحكيم يمتلك قدرات أعلى وأكثر شمولاً بالثقافة والفنون منه.”

أما عن المرحلة الثانية من تجربة العاني يقول الدكتور أحمد شرجي ” إن المرحلة الثانية التي تبعت الواقعية كانت ” المسرح الوثائقي التسجيلي ” وهذا ما نجده من خلال مسرحيته ” الخرابة ” حيث طبّق منهج المسرح الوثائقي الذي أخرجه سامي عبد الحميد.”

ويختم أحمد شرجي الجلسة، تاركاً للحضور سؤالاً يعرف هو إجابته ” بحسب ما يقول ” ، ويذكر ” هنالك سؤال، سأطرحه، رغم أني أعرف إجابته، هنالك كُتّاب مهمّون في زمن يوسف العاني، فلماذا حضر اسم يوسف العاني في الذاكرة دوناً عن الآخرين؟!”.

———————————————————————————————
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – زينب المشّاط تصوير / سلام صبري – المدى

شاهد أيضاً

الكتاب المسرحي العربي للمرة الأولى في جيبوتي. اسماعيل عبد الله: حضور منشورات الهيئة العربية للمسرح في معرض كتب جيبوتي حدث مفصلي في توطيد الثقافة العربية.

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *