جواد الأسدي يوقظ أحلام المتدربين وينبش مكنونات أرواحهم الإبداعية

على حافة زمن بعيد.. زمن جميل بناسه وفنه، كان المسرح أبو الفنون بحق. لم يكن مسموحاً لأنصاف الموهوبين أن يعتلوا الخشبة.. كان حلماً لا يتحقق إلا بعد جدّ وضنى

 

 

 

واحتراق في أتون الجسد أثناء التدريبات. لكن الأبناء خرجوا على الأب. قتلوه، لا بالمعنى الإيجابي الذي يحمل دلالات التجديد والتغيير بل بالمعنى السلبي الذي يشبه العقوق. أجل هناك عقوق مسرحي كبير لفكرة المسرح الأساسية نجم عنه تفريغ المسرح من جمالياته واستشراء الاستسهال المسرحي القائم على نصوص ركيكة وخلطة من الضحك التافه والإفيهات السمجة لا أدري من الذي جعلها أشبه بـ “تميمة” تحقق للمسرحية النجاح، والنجاح المقصود هو نفاد التذاكر من الشباك. مسكين هذا الشباك كأنه اشتكى لهم من حمله الثقيل ويريدون إراحته!.

حتماً هناك انقلاب ما حدث في المسرح.. كان عندنا عمالقة يهزون الخشبة ويهزون قلوبنا بأدائهم.. الآن لدينا أقزام كثيرون يقزّمون الفعل المسرحي ولا تتجاوز كلماتهم ولا حركاتهم جلودنا… حتى بعض المسرحيين المجيدين الذين يحافظون على بهاء المسرح بدأوا يتعبون.. يهرمون.. أو يضعون رؤوسهم بين الرؤوس.. كيف لا.. إذا كان كل ما حولهم يدفعهم إلى خيار كهذا؟!

لكن في كل هذا السواد، ثمة (أوادم) نذروا أنفسهم للفن الجميل.. عشقوه حتى صار يجري مع دمهم.. أحبوه حدَّ أن كل ما في هذه الفانية من ملذات ومغريات لا يعادل لذة لحظة مسرحية حقيقية واحدة.. من هؤلاء النبيلين جواد الأسدي الذي يقيم حالياً بين ظهرانينا ويدير ورشة مسرحية تدريبية تنظمها وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع في المسرح الوطني بأبوظبي.

نبش الداخل

أغرب ما في الأمر، أن الأسدي الذي يعرف هذا الواقع وامتحن فجاجته جيداً، لا ييأس ولا يكف أبداً عن الحلم. يحمل عشقه للمسرح في حقيبة قلبه، وأينما حلّ يترك بذرة منه لدى عشاق المسرح، لا يدربهم على الأداء فقط، بل ينبش في أرواحهم، ينقب عن الموهبة المختفية خلف ركام المشاهدات التي تفسد البصر، يعلمهم كيف يسبرون أغوارهم، كيف يتحدثون ويجلسون ويضحكون ويبكون ومتى يصمتون. يجلسهم أمام ذواتهم ليحكوا ويبوحوا ويكتشفوا مكامن القوة والضعف التي تنطوي عليها أعماقهم.. وسرعان ما ينقل لهم عدواه الجميلة فتسمعهم يتحدثون بلغته..

في تدريباته التي يقوم بها حالياً مع الشباب تعثر على ما فعله جواد الأسدي بهم… في فترة قصيرة صار هؤلاء يتحدثون عن المسرح كأنه النور الذي أشرق فجأة في دواخلهم، ومن أجل تلك المتعة الفكرية والجمالية التي استشعروها يصبح السفر من العين إلى أبوظبي يومياً لحضور التدريبات “أحلى من العسل” كما قال ياسر النيادي، أو يصير “وطنا” كما قالت سمية الداهش، وتتحول منصة القاعة الصغرى في المسرح الوطني بأبوظبي إلى منصة للأحلام التي نبتت لها أجنحة، وكبرت حتى صار بعضهم يحلم بأن يرى معهداً مسرحياً أو مهرجاناً مسرحياً يقام كل عام في العاصمة أسوة بعواصم العالم الأخرى…

آراء وأحلام

يرى الشاب عمر محمد الغساني أن فوائد الورشة “لا تنحصر في تعلم الوقوف على خشبة المسرح ومهارات التمثيل وطريقة نطق العبارات والتعبير بحركات الوجه والجسد، بل تمتد إلى تعلم الجرأة وطرد الخوف واستبطان الذات وإخراج مكنوناتها وهكذا تتفتح الزهور الغافية في أعماق الممثل”.

ولا ينسى الغساني أن يذكر الثقافة والمعرفة النظرية التي حصلوا عليها، واكتساب مهارات التعامل مع الآخر واحترامه، مؤكداً على الجو الاجتماعي الجميل الذي يعيشونه وهم يشعرون أنهم عائلة واحدة.

أما شقيقه علي محمد الغساني فيرى أن المسرح شيء رائع و”مقدس”، وهو يتمنى “أن يكون للمسرح حضور أكبر بين الناس وخاصة الشباب، وأن يكون له جمهور يتابعه لأن غالبية الناس تتابع التلفزيون، وأن يكون في أبوظبي عروض مسرحية أكثر وأن يدخل المسرح في صميم نشاطها الثقافي”.

وتصف سمية الداهش المسرح بأنه “وطن”، وتضيف: “المسرح بالنسبة لي وطن صغير. لا أحد يجبرك على مغادرة وطنك. سأظل في هذا الوطن وأدافع عنه وأحميه حتى يتحقق حلمي وأكون مسرحية كبيرة”. وتذكر سمية جيداً ما شهدته خشبة المسرح الوطني في أبوظبي من “انفجارات ذواتنا التي انطلقت من عقالها، وبوحنا، وأحلامنا وتوقنا إلى المسرح”.

وتتابع: “كان حلماً عظيماً لي أن أعمل مع مخرج مثل جواد الأسدي، وكم أنا سعيدة وفخورة بأنني خضت هذه التجربة. أتمنى أن تتكرر وأن تنظم ورشا أخرى”.

ويشاركها ياسر النيادي شعورها بالسعادة والفخر واصفاً الأسابيع الثلاثة التي تلقى فيها التدريبات بأنها “من أجمل ما عشته من مشاعر”، مضيفاً بأن العمل مع هذا الـ جواد “كان واحداً من أحلامي الشخصية. لقد استفدت من هذه الورشة الكثير ليس فقط على صعيد المسرح الذي عرفت أشياء مهمة عن الطريقة التي ينبغي بها التعاطي معه، وكل ما يتعلق بالأداء والتعبير بل أيضاً على صعيد الثقافة ودورها في بناء مدينة قادرة على التعامل مع ثقافات أخرى والانفتاح على عوالم متنوعة، والوعي وما يفتحه للإنسان من جماليات خلابة وقدرة على رؤية الآخرين.. لقد كانت أسابيع قيمة جداً وفيها عطاء سخي”.

ويصف أحد المشاركين هذه الورش التدريبية بأنها “عيد” يسعدهم قليلاً ثم يذهب. لهذا يتمنى أن يكون هناك دورات دائمة، فالديمومة هي التي تؤصل الموهبة، وتصقلها.

ويضيف الشاب الذي يأتي من بني ياس للتدريب بأن “كل مشقة تزول بمجرد البدء في التدريبات، لأن الخبرة التي نحصل عليها تستحق أن نبذل من أجلها الجهد.. خاصة وأن مخرج مثل جواد الأسدي هو الذي يدربنا”.

ويلفت الانتباه في هذه الورشة أنها ضمت شباباً من الإمارات ومن الدول العربية وهو الأمر الذي قال الشباب إنه واحد من ميزاتها، فقد تعرفوا إلى بعضهم البعض وشعروا أنهم أكثر قرباً من السابق، ويرى جواد الأسدي أن هذه واحدة من جماليات الورشة حيث “يوجد بين هؤلاء الشباب بعض من يمكن المغامرة بهم حتى على الصعيد العربي لأن لديهم طاقات إبداعية مهمة. لقد اكتشفت في هذه الورشة عطشاً هائلاً لدى هؤلاء الشباب للمسرح، للمنصة، لرئة يتنفسون من خلالها”.

وأشار الدكتور حبيب غلوم مدير الأنشطة الثقافية في وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع الذي كان حاضراً إلى بعض الإشكاليات التي تواجه العاملين في المسرح، مؤكداً أن “المسرح لن يزدهر إلا إذا وضعته الدول العربية ضمن الأجندة التنموية”.

وألمح غلوم إلى أن هذه الورشة التدريبية تستهدف تشجيع الشباب وصقل قدراتهم للمشاركة في العمل المسرحي، ورفد الساحة بمواهب مسرحية جديدة.

وتواترت الآراء والشهادات التي أجمعت على شكر وزارة الإعلام والثقافة على هذه الهدية الجميلة مع الأمل بأن لا تكون هذه الورشة “بيضة الديك” وأن تعقبها ورش أخرى.

شـهـيـرة أحـمـد

http://www.alittihad.ae

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *