“جرعة” مختار حسين: أبعد من التمويل

 

يسيّر “المسرح الوطني”، وإلى جانبه أربعة عشر مسرحاً جهوياً، واقع الفن الرابع في الجزائر. تنتج هذه الجهات أعمالاً لا تقل ميزانية الواحدة منها عن مئة ألف دولار، بل إن بعض العروض استنزفت ما يفوق المليون دولار من دون أن تقدّم جديداً، أو تلفت النظر وتحصل على جائزة لافتة في إحدى المهرجانات المختلفة التي تشارك فيها.

آخر هذه العروض المسرحية الضخمة والمكلفة، كان “ملحمة الجزائر الكبرى”، الذي أنتِج في مناسبة الذكرى الستين لاندلاع ثورة التحرير. وقد أثير حول هذه العمل “الملحمي” الكثير من اللغط ما بين الحديث عن ميزانيته المجهولة، وأعداد المشاركين الغفيرة، واستقدام طاقم عمل صيني، إضافة إلى تبديل ثلاثة مخرجين، كان العراقي جواد الأسدي أوّلهم، قبل أن يظهر العرض بصورته الأخيرة.

وسط هذه المعمعة الرسمية، يجيء “مسرح القوس”، التابع لـ”جمعية الشروق الثقافية” في مدينة معسكر، غرب الجزائر العاصمة، ويشرف عليه المخرج والممثل مختار حسين (1987). إنه فضاء صغير يلمّ شتات الشباب الهاوي والمغرم بالفن الرابع، يأوون إليه هرباً من الفراغات المختلفة، فيلتقون فنانين ومسرحيين يأتون إلى الفضاء من كل المحافظات، يسمونه “المعبد” ويفضّلون المبيت فيه على الفنادق المريحة، بل إن هناك كتّاباً اتخذوا منه إقامة لكتابة رواياتهم ومشاريعهم الإبداعية.

أقدم “مسرح القوس” على إنتاج مسرحية بميزانية معدومة. وضاعف مختار حسين من جرعة التحدّي لهذا الواقع المسرحي المتعثر (الواقع الذي أدانته لجنة تحكيم “المهرجان الوطني للمسرح المحترف” في دورته الأخيرة) عبر استقطاب المتوّجين في هذا المهرجان، تمثيلاً وسينوغرافيا وموسيقى وكوليغرافيا، للمشاركة في عرضه الذي حمل عنوان “جرعة”. اقتبس النص وكتبه المسرحي فتحي كافي عن نص “مذبحة حدثت منذ عام” للكاتب المصري حسام قنديل.

سنتان من البحث والتفكير، وشهر من التدريبات، تحمّل خلاله أفراد المسرحية عبء مصاريفهم الخاصة، وتنقلاتهم إلى مدينة معسكر من مناطق مختلفة من البلد. لكن هذه المبادرات لم تذهب سدى، بل أسفرت عن مسرحية “جرعة” التي اشتغلها رفاق المسرح هؤلاء بمحبة وتطوّع. وبالفعل، قُدّم العرض الأول على المسرح الجهوي لمدينة سيدي بلعباس، الذي كان يديره كاتب ياسين، لتشكّل “جرعة” ثمرة لرؤى جديدة يحملها ويطمح إليها جيل جديد من المسرحيين الجزائريين.

أمّا موضوع المسرحية، فليس ببعيد عن الواقع العربي، ولا عما يتوقعه المتفرج العربي في هذه اللحظة من العنف، فثيمة العمل بالدرجة الأولى هي العنف الجسدي والنفسي. نجد في العرض شخصيات خائنة وأخرى تحولت إلى آلة قتل. العنف في “جرعة” يبدأ في البيت والعائلة، بعد أن تخون الزوجة (الممثلة خامسة مباركية) زوجها (هشام قرقاح)، فيتفنّن الأخير في تعذيبها وينتهي به الأمر إلى قتلها. ثم ينمو العنف ليخرج من دائرة العائلة إلى السلطة السياسية التي سيظهر أنها رتبت هذا الزواج، وأن الزوجة “عميلة” لها ومُرسَلة لتجنيد الزوج.

هكذا يتناول النص العلاقة العنيفة والاستغلالية بين الفرد والسلطة في الديكتاتوريات، وينتهي بانكشاف الخدعة التي انطلت على “الفرد”، حين يدرك أنه مجرد حجر شطرنج تم تحريكه إلى هذا المربع أو ذاك في الوقت الذي كان يعتقد أنه يتصرف بحرية. وبالطبع، ينطلق الزوج في محاولة ثانية للثأر لنفسه، لكن من السلطة هذه المرة، فيقع في فخها من جديد.

النجاح الذي لقيته مسرحية “جرعة”، يعود لعوامل وشخصيات عديدة، إلى جانب الشخصيات المسرحية. أسهم فيه تكامل وتعاضد الرؤى الفنية للمخرج مختار حسين، والسينوغرافي حمزة جاب الله، الذي حصل على جائزتين في مهرجان “المحترف”، إضافة إلى الموسيقي حسان العمامرة، الذي نال جائزة أفضل موسيقى في المهرجان نفسه.

جاءت هذه العناصر، لتصنع الانسجام الجمالي وتساعد المتفرج على تجاوز فخاخ تداخل الأزمنة الذي اعتمده المخرج، والتي قد تقود لشيء من التشويش. في ما يتعلق بالديكور، فقد صُمِّمت الخشبة بحيث تكون مفردات المسرحية متحركة وعلى شكل حرف T، الأقرب لشكل الصليب، وتكون الشاشة في الوسط، والأطراف قضبان زنزانة. هذا التصميم جعل التنقل بين المشاهد مريحاً ومتيحاً رؤيتها من زوايا مختلفة، وكأننا نشاهد فيلماً، وهو المعطى الذي راعته الموسيقى، من خلال اعتمادها على آلات ذات أصوات حديدية، ما زاد من حدة الدراما في العمل.

يقول المخرج حسين، لـ”العربي الجديد”، إن ثلاثين فناناً شاباً ساهموا في العمل بأموالهم وجهودهم، ويرى في ذلك خطوة تؤسس لفعل مسرحي حر في الجزائر. بل إنها مبادرة تطرح أكثر من سؤال على مستوى جدوى الأموال التي تخصصها وزارة الثقافة للمسارح الحكومية، من غير أن تتقدم بالمسرح الجزائري خطوة إلى الأمام.

ويكشف حسين أن مسرحية “جرعة” ستقدم 22 عرضاً لها في محافظات مختلفة، داعياً القائمين على المسارح الحكومية والمنتمين إليها في هذه المحافظات إلى الحضور، وإلى أن يفتح المسرحيون حواراً يصبّ في مسعى التقييم المشترك لأداء مسارح الدولة وجدوى مشاريعها، إضافة إلى مناقشة قضايا المسرحيين الشباب، وما يمكن إصلاحه أو مراجعته أو تحسين أدائه في الواقع المسرحي الجزائري.

 

 

الجزائر ــ عبد الرزاق بوكبة

http://www.alaraby.co.uk/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *