بنيان صالح.. رحلة الحياة والمسرح

 

في السيرة الحياتية والثقافية للكاتب والناقد والمخرج المسرحي الرائد (بنيان صالح) الكثير من المواقف التي تعكس حضوره كإنسان وكاتب ومثقف وطني- تقدمي، ما يجعلنا نتوقف عندها، ففي بداية شبابه عام 1951 دفعته الظروف المعيشية القاهرة للعمل بصفة عامل مؤقت( في شركة نفط البصرة) ،  وكان حينها تحت السن القانونية للتعيين الدائم ، وشهد إضراب عمال الشركة عام 1953  للمطالبة برفع الأجور وتحديد ساعات العمل مع تعديل شروطه ،وكان خلف تنظيم الإضراب بعض العمال الشيوعيين وقيادة الحزب الشيوعي في البصرة ومسؤولها حينها الشهيد(سلام عادل)، وكيف تمت مواجهتهم من قبل الحكومة الملكية وأجهزتها الأمنية بقسوة ، وسالت دماء بعض العمال واعتقل الكثير منهم وتم حينها إعلان  الطوارئ في البصرة، ما دفعه لكتابة مقطوعة شعرية ، ونشرها باسمه في جريدة عمالية كانت تصدر في البصرة.

بعد بلوغه السن القانونية تم تعيينه في ( شركة نفط البصرة) بصفة(موظف بريد) وكان يعمل معه في ذات البناية القاص والروائي الراحل (مهدي عيسى الصقر) ، وسمع بنيان ، بأن ثمة مَنْ يسأل عن مسكن (الصقر) وأين يقع؟!. وعلمَ أنهم ( شرطة الأمن) وسيقومون بالإغارة عليه في وقت قريب لتفتيشه فخمن أنهم ، سيعثرون في مسكن(الصقر) على ما يعد( وسائل وشواهد) جرمية أهمها الكتب والمطبوعات المعارضة ،التي تعد محرمة وممنوعة وتوقع الحائز عليها تحت طائلة القانون وتدفع به للاعتقال والسجن والفصل من العمل، فسارع وكتب ورقة صغيرة للـ(صقر) شرح فيها هذا الأمر ، وبحكم العمل وضعها بين يديه بسرية. بعد أيام اعلمه (الصقر) برسالة أيضاً، تضمنت شكره وتقديره، و انه احتاط لهذا الشأن، إذ تمت فعلاً مداهمة بيته ليلاً، بشكل فظ ، لكنه تمكن قبلهم، في ضوء رسالته الصغيرة الكبيرة- الاحتياط للأمر ، و لم يتم العثور في المسكن على ما يستوجب اعتقاله.
زاوج الرائد المسرحي(بنيان صالح) في حياته بين ثلاثة أمور هي: العمل نهاراً والدراسة مساءً والانكباب على التثقيف المسرحي بتواصل. بعد إكمال دراسته توجه للعمل في التعليم ، ما منحه الوقت المناسب لإشباع رغباته الثقافية المسرحية التي اعتبرها (مصيرية) ولم يحد عنها نهائياً فكتب عشرات المقالات النقدية عن العروض المسرحية التي قدمت في البصرة و بغداد وبعض المحافظات ، كما نشر الكثير من الدراسات عن المسرح البصري-العراقي ، وبعض المسرحيات العربية و العالمية ، في الدوريات و المجلات العراقية و العربية وأهما مجلة (الآداب) اللبنانية ، وكانت حينها من أهم المجلات الثقافية في العالم العربي ولم يكن النشر فيها سهلاً ، إذ كانت تضع شروطاً للنشر على صفحاتها تأميناً على مستواها الثقافي – الأدبي الرفيع، وقد أثارت المقالات التي نشرها (بنيان صالح) على صفحاتها، ومنها: “يوسف العاني..العودة إلى النبع”،وغيرها، وأهمها دراسته المطولة عن مسرحية “مارا صاد ” للكاتب المسرحي العالمي “بيتر فايس” اهتمام و ثناء النقاد العرب الذين ثمنوا قدراته النقدية والتحليلية المسرحية. في نهاية عقد الستينات كانت مدينة البصرة تعج بفرق الهواة المسرحية ومنها: فرق مسرحية مدرسية ،وأخرى عمالية، وفرق أسسها مثقفون اتخذوا المسرح مجالاً لعكس رؤاهم الفنية ، إلى جانب فرقتين مسرحيتين رسميتين. وكانت العروض المسرحية تقدم على مسارح متواضعة، في النوادي الاجتماعية والرياضية ومقرات النقابات والمدارس وعلى قاعة(التربية) ،(عتبة بن غزوان) حالياً، كما سَرَتْ (عدوى) هذه النشاطات إلى بعض أقضية البصرة ونواحيها ، فبرزت فيها فرق مسرحية طلابية وأهلية شابة لنشر ثقافة المسرح بعروض متواصلة ،وكانت اغلب الفرق الأهلية تعتمد على مواردها الخاصة وتزج عوائلها في تلك العروض. في خلال تلك المرحلة أسس( بنيان) برفقة الراحل حميد مجيد مال الله وكاظم عيدان لازم وعبد الصاحب إبراهيم وعزيز الساعدي مع بعض زملائهم جماعة (كتابات مسرحية) ، واتخذت( الجماعة) ( نادي الفنون) مقراً لها وأسست كذلك فرقتها المسرحية الخاصة ، بعيداً عن هيمنة السلطة وتوجهاتها الفكرية ، وقدمت عروضاً مسرحية عدة على حدائق نادي الفنون وكذلك قاعة التربية (عتبة بن غزوان حالياً) ، وساهمت في الاحتفالات بالمناسبات الوطنية العراقية، والمشاركة كل عام (بيوم المسرح العالمي).كما أجرت الجماعة حوارات هادفة وعقدت ندوات تثقيفية عامة وشهدت أروقة نادي الفنون جدالات خلاقة مع الجمهور حول العروض المسرحية التي تقدم على قاعته أو حدائقه، وكان (بنيان صالح) مع زملائه يسعى لأن تغدو زيارات قاعات العروض المسرحية من التقاليد الراسخة اجتماعياً لدى العوائل البصرية، وتم تقديم بعض العروض المسرحية الخاصة بفرقة (كتابات مسرحية) في البصرة و بغداد. بقيت الجماعة تواصل نشاطها التثقيفي المسرحي ،على حدائق نادي الفنون ومنها مسرحية(هو الذي يتحدثون عنه كثيراً) والتي أخرجها (بنيان)وكتبها الكاتب المسرحي(عبد الصاحب إبراهيم) الذي اضطرته السلطة إلى هجر وطنه العراق بحجة (التبعية) ، وعروض أخر منها:(دوائر اللهب) تأليف حميد مجيد مال الله و إخراج بنيان صالح ، ومسرحية (طوفان الفرح) تأليف جبار صبري العطية وإخراج حميد مجيد مال الله ، ومسرحية (يبحر العراق) تأليف بنيان صالح وإخراج جبار صبري العطية. تعرض (بنيان) لتعسف النظام المنهار، إذ تم اعتقاله في نهاية السبعينات، والاعتداء عليه بقسوة ، كغيره من المثقفين والأدباء والفنانين البصريين الذين لم يتعاملوا مع النظام البعثي. ولم يُعرف عن(بنيان) إي تواصل أو مهادنة أو تقرب أو تزلف للنظام المنهار والمؤسسات الثقافية السلطوية وخطاباتها المتخلفة ، وبقي ينشد في مسيرته الفنية وكتاباته المسرحية المتعددة الجمال والفرح والمحبة والسلام و الحق و الحرية التي لا أسوار أو حدود لها ، بالترافق مع العدالة الاجتماعية- الإنسانية، مسلطاً الأضواء فيها ، على القهر الإنساني والقبح والتردي أينما كان ومن أية جهة أتى أو قناع ارتدى، معرياً بفنية كل قوى القهر والاستلاب المدججة بقوة السلطة والمال والإعلام والمخبرين والمتزلفين وخونة الضمير الإنساني، وبذا يشكل (بنيان صالح) مع قلة من زملائه صفحة مضيئة في التاريخ المسرحي في البصرة والعراق. كتب ونشر(بنيان) العديد من المسرحيات وأهمها: مسرحية ( الجنين الأشقر المحبوب) ، مسرحية (دراما تورج) نشرت عام 1972 ، مسرحية(آل يانكي) نشرت عام 1972أخرجها الفنان (أديب القليجي) في بغداد ، و سجلت تلفزيونياً ، لكنها منعت من العرض، كما أجرى المخرج المسرحي الرائد الراحل (إبراهيم جلال) تدريبات متواصلة عليها لتقديمها في بغداد بمناسبة (يوم المسرح العالمي) عام 1974 ، ولم تحصل الموافقة على عرضها؟!. مخطوطة كبيرة عن (الحركة المسرحية في البصرة)عام 1973، مسرحية (سيرة – أس) نشرت عام 1974 ، مسرحية (يبحر العراق) مخطوطة عام 1974 ، ،مسرحية (النورس لم تهاجر)وتعالج نتائج وانعكاسات الحرب العراقية- الإيرانية على المجتمع والشخصية العراقية مخطوطة 1985 ،مسرحية (العمة الزرقاء) نشرت عام 1990 ، مسرحية (الحلمانين) قدمتها فرقة البصرة للتمثيل في بغداد وأخرجها المخرج المسرحي الراحل( طالب جبار) ، مسرحية (حذاء الراقصة) نشرت عام 1992 ، (مسرحية النبوءة والدينونة) مخطوطة 1992، مسرحية (أوقات) مخطوطة 1994، مسرحية (المتمرد) مخطوطة 2007 ، مسرحية (حتى متى) مخطوطة عام 2010 . اعد واخرج مسرحية (تألق جواكان موريتا ومصرعه) من تأليف الشاعر ( بابلو نيرودا)، عرضت على مسرح قاعة نادي الفنون، بالتزامن مع الانقلاب الدموي الذي قاده الدكتاتور (بينوشت) ضد الرئيس التشيلي الشرعي(سلفادور الليندي)، وكان مفتتحها مقاطع من (قصيدة تشيلي قي القلب) للشاعر عبد الكريم كاصد التي ألقاها بصوته من خلف ستار العرض المسرحي . وقدمت (فرقة إبراهيم جلال المسرحية) في البصرة مسرحيته (مانيكان) من إخراج الأستاذ (خالد السلطان) عام 2009،ثم عرضت في بغداد ، وشاركت الفرقة فيها عام 2010 مع كلية الفنون بجامعة البصرة في (مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة) وقدم الممثل( نور الشريف) للفرقة درع الإبداع والتميز مع شهادة تقديرية عن التأليف والإخراج والتمثيل. صدر له كتاب ضمن منشورات اتحاد الأدباء في البصرة، ضم (أربع) مسرحيات(مونودراما). وفيما إذا تم جمع مقالاته المتعددة المختصة بالنقد المسرحي التطبيقي سيكون له أكثر من كتاب. ظل (بنيان صالح) مع بعض زملائه يواصلون نشاطهم المسرحي في نادي الفنون حتى تم ختمه بالشمع (الأسود) من قبل (سراكيل) الثقافة السلطوية المنهارة.نأمل على المعنيين في الشأن الثقافي- الأدبي في البصرة، خاصة كلية الفنون في جامعة البصرة أقامت ملتقى مسرحي- بحثي يحمل اسم الكاتب والمخرج المسرحي الرائد(بنيان صالح) تثميناً لمسيرته الريادية المسرحية ، وتكريماً لمواقفه الحياتية الناصعة.
جاسم العايف
http://www.almadapaper.net/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *