المونودراما أغنية الممثل وشجن العزف الواحد

 


المونودراما لون من ألوان المسرح المتعددة, وواحد من أشكاله المتشظية. وفي البدء لابد من تعريف لطبيعة المونودراما والتي توصف بأنها ( مسرحية من فصل واحد يؤديها ممثل واحد بصوت واحد أو هو أداء الممثل الواحد للعديد من الأصوات داخل الشخصية الواحدة) , منذ بداياته ارتبط المسرح بفن الممثل , لم يكن المسرح وهو ابتكار حضاري لعقليات مفكرة وحكيمة الا ممثلا لثقافة البلد وعاكسا لدرجة وعيه الاجتماعي , وهو في حقيقته إنجاز للمجتمع الإغريقي حيث قام هذا الفن ونضج على أيدي مفكريهم وفلاسفتهم والمجتهدين في خلق عوالمه.

بدأ هذا الفن بممثل واحد يقدم قراءاته الشعرية أمام جموع المتلقين من جماهير أثينا في أعيادها ومهرجاناتها التي تقيمها في مواسم الخصب والحصاد , ويحفظ لنا تأريخ المسرح العالمي منذ بداياته الاولى باسم مسرحي مهم هو ( ثيسبس ) الذي كان أول ممثل اعتلى عربته وتنقل بها في مختلف مدن أثينا مقدما للمتحلقين حول عربته عروضا درامية , لم يكن ثمة مؤدون مع هذا الفنان الا بعض المشاركين الذين يرددون حوارات بعينها تسند فعل الممثل الوحيد وتعلق على بعض الأحداث التي يمر بها , وكانوا في البدايات من بين المتلقين الذين جاؤوا للتفرج ثم تحولوا الى مشاركين ايجابيين تحت اسم الجوقة , وحين عمل الكاتب المسرحي الكبير( أسخيلوس ) على اضافة الممثل الثاني بدأ العرض المسرحي بأخذ منحى جديد اذ اصبح الفعل الدرامي المقدم يتضمن ممثلين ثالثهما الجوقة التي لم تكن تقل في عددها عن الخمسين فردا , بعدها جاء القدير في المسرح ( سوفكلس ) وهو كاتب اغريقي لا يقل في منزلته وأهميته عن نظيره ( أسخيلوس ) اذ زاد ظهور الممثلين على الخشبة ممثلا ثالثا, وبذلك اتسعت رقعة الأحداث وطبيعة البنية الدرامية في تركيبتها الداخلية ,اذ ان وجود ثلاث ممثلين مع الجوقة جعل البناء الدرامي للمسرحية يأخذ أشكالا جديدة زادت ووسعت ونوعت في العرض المسرحي وقدرته على التأثير والاجتذاب ,واذا كانت بدايات المسرح قد أوجدت (ثيسبس ) وعربته فأن حدة الصراعات في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين والحروب التي قامت وضراوتها وظهور مجتمع صناعي مجد الآلة وقلل من قيمة الجهد اليدوي اضافة الى ظهور الافكارالفلسفية والعلمية والتيارات الفنية المختلفة , ما جعل الانسان يميل الى نوع من العزلة والوحدة والبحث عن أساليب جديدة في التعبير فكان أن عمل على استعادة ذكرى الفنان ( الاغريقي ) ثيسبس, ما بعد الحرب العالمية الثانية ظهر في المسرح بالذات الميل الى لون جديد من ألوان العروض المسرحية هو مسرح ( المونودراما ) أو عرض الممثل الواحد الذي يجمع كل الاصوات الدرامية في صوت واحد هو صوت الشخصية التي تقدم العرض على الخشبة , والمونودراما كلون مسرحي تقدم عادة في فصل واحد لايتجاوز في أحيان كثيرة الساعة في زمنه معتمدة على ممثل واحد يقدم الحكاية في قالب درامي ذا حبكة وفكرة وحوار وحدث ,وتدور موضوعتها حول تلك الشخصية دون غيرها , فيكون الصوت الطاغي هو صوت الشخصية ومعاناتها في دائرة ذاتية قد تتسع لتكبر حين تنطلق من الذات الخاصة الى ما يحيط بها من ذوات تشكل دائرة علاقات وارتباطات أحداث ,أو قد تكون المونودراما مصاغة لتقديم ذوات متعددة أو أصوات متنوعة من خلال تشظي الصوت الواحد , وهنا يلعب الممثل أكثر من دور ويقدم اكثر من شخصية تشكل المحور الاساس في بنية العرض الدرامية ,والمونودراما باعتبارها بناء درامي لايخرج في شكله ومضمونه عن البناء الدرامي في المسرحية التقليدية , فأنها تؤكد على المكان والزمان اضافة الى وجود الفعل الا في حالة كتابات مسرح العبث واللامعقول التي تكسر فيها كل الوحدات التي أكد عليها أرسطو في كتابه ( فن الشعر ) وخالفتها العديد من التيارات الدرامية والمذاهب الفنية ,لكن مكملات العرض المسرحي بعناصره مطلوبة وضرورية لخلق حالات التأثير والتشويق الدراماتيكي لدى جمع المتلقين , ميزة المونودراما اعتمادها على قدرات أدائية عالية للممثل , اذ أنها تقوم بالدرجة الاولى على المهارة والدربة التي يتمتع بها مؤدوها وما يمتلكونه من مطاولة في الوقوف داخل فضاء العرض المسرحي طيلة الزمن الذي يستغرقه العرض المقدم , وقد لاتكون المونودراما ناطقة أي ليس ثمة ملفوظ لايصال مضمون العرض بل تعتمد لغة الجسد التعبيرية في التجسيد وإيصال الخطاب الدرامي , وفي هذه الحالة لابد أيضا من توفر الخبر والمهارات الادائية العالية لدى الشخصية الاولى والوحيدة في هكذا نوع من العروض , ولن نغفل أهمية دور المخرج في خلق التنوع والغنى عبر البصري المتغير والمحمل بالدلالة والمعنى , والحديث عن هذا اللون المسرحي يتطلب منا الالتفات الى عنصر مهم من عناصر العرض المسرحي وهو المكان والذي يعرف بأنه ( وظيفة تشكيلية درامية مزدوجة يتضح وجودها بالذات في المكان المسرحي كتجسيد لمكان الحدث وكمكان حي له القدرة على الإيحاء الدلالي والتأثير النفسي في المتفرج من خلال التنظيم الجمالي العام لجميع عناصره ) ,وهذه الوظيفة في الاشتغال على المكان تتحقق من خلال استغلال المخرج لمفردات المكان وقدرته على استنطاقها بما يتناسب والعرض المسرحي المونودرامي المقدم ,وفي هذا الخصوص يؤكد المخرج الروسي الكسي بوبوف ( ان الحيز المسرحي يعالج في آن واحد مع الشكل الديكوري وفي علاقة متبادلة معه بحيث تبنى عليه الأفعال الدرامية الكامنة في المسرحية ) , اما العنصر الاخر المهم في لعبة العرض المسرحي المونودرامي فهي السينوغرافيا والتي توصف بأنها ( فن تصميم مكان العرض المسرحي وصياغته وتنفيذه ويعتمد التعامل معه على استثمار الصور والأشكال والأحجام والمواد والألوان والضوء ) ,تخلق السينوغرافيا المتحركة في فضاء العرض قدرة تأثيرية تكون بمثابة مساند وداعم قوي للممثل على الخشبة ونقصد بالسينوغرافيا المتحركة أي السينوغرافيا المنوعة والغنية بدلالاتها التعبيرية والجمالية وايحاءاتها البصرية , المسرح العالمي قدم لنا عبر نصوصه المسرحية الحديثة نماذجا متميزة لفن المونودراما منها مسرحية ( ضرر التبغ ) و( أغنية التم ) للكاتب الروسي تشيخوف ومسرحية (الصوت البشري ) للكاتب الفرنسي جان كوكتو ومسرحية (الشريط الاخير) لكراب للكاتب صموئيل بيكت و (الدرس ) ليوجين يونسكو , كما كتب العديد من المؤلفين المسرحيين العرب مسرحيات المونودراما في العراق , المغرب ,تونس ,مصر , والأردن . ولم تكن هناك من فكرة بتأسيس مهرجان للمونودراما رغم وجود كثرة من العروض الخاصة بهذا اللون لاسيما وأن هناك العديد من الفنانين من الذين يميلون الى تبنيه لاهميته لاسباب عديدة منها:
مساحة الكتابة في النص المونودرامي مفتوحة ( تداعيات , انثيالات ,مناجاة ,وصف , اعتراف ) اي هناك فسحة للغوص في أعماق النفس الانسانية وسبر أغوارها الداخلية . 
إبراز القدرة الادائية للمخرج والممثل معا في في قيادة العرض وتنويعة . 
ميل هذه العروض الى التكثيف والاقتصاد على المستوى الانتاجي
سهولة التنقل في مثل هذه العروض وتقديمها في أماكن مختلفة ( مسارح تقليدية , مسارح ذات فضاء مفتوح , تحوير في كاليريهات للفنون , كنائس , مقاه , أماكن أثرية ) . 
وقد يكون تأسيس وانطلاق مهرجان المونودراما الدولي في دبا الفجيرة في العام 2003 والذي قام بجهود فناني مسرح دبا وبتخطيط وجهود الفنان العراقي عزيز خيون فرصة للاهتمام بهذا اللون المسرحي والتعريف به وجعله احدى الوسائل التفاعلية مع المتلقي وهو متواصل في دوراته التي تعقد بين سنة واخرى , وان كنا نأمل ان يحرص القائمون عليه على تكريسه وانفتاحه ليخرج من أطر ضيقة ورؤى مكررة ومحدودية مشاركات وتكرار أسماء وندوات سقيمة لاجدَّة في مضامينها الى سعة الأفكار وتنورها وانفتاح الافاق وتنوعها وتجدد الوجوه وطروحاتها والخروج به الى مدى انساني اشمل , هناك الكثير من الدراسات والبحوث التي تناولت هذا اللون المسرحي لاسيما في رسائل الماجستير واطروحات الدكتوراه فيما يتعلق بالجانب التأريخي والنشأة والاهمية لهذا الفن , وان كنا نتطلع الى أن تكون هناك توجهات في المهرجانات العربية المعروفة على خارطة المشهد المسرحي العربي حضور لهذا الفن عبر تخصيص احدى الدورات لهذه المهرجانات لتقديم عروض مونودرامية من المسرح العالمي بتوجه نحو فن الكوميديا أو عروض مونودرامية من المسرح العربي لتقديم مشاكل وارهاصات ما يدور الان في الاوطان العربية بطروحات كوميدية ناقدة وساخرة هادفة كمهرجان المسرح العربي في مصر ومهرجان المسرح المحترف في الجزائر ومهرجان بغداد الدولي للمسرح وما تقيمه الهيئة العربية للمسرح من تظاهرات مسرحية متميزة , يبقى المسرح أفق رحب للبوح وللجنون وللابداع لاتحده خطوط حمراء او صفراء لانه برلمان الشعب وجامعته المسائية التي تدله الى فضاء الحرية . 
المصادر :
صليحة , نهاد : تيارات مسرحية معاصرة . 
رشيد , كريم : جماليات المكان في العرض المسرحي العراقي . 
بوبوف , الكسي : التكامل الفني في العرض المسرحي . 
مارسيل فريد , فون : فن السينوغرافيا.

 

عواطف نعيم

http://www.almadapaper.net/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *