جواد الأسدي من كربلاء إلى الحمام البغدادي

 

“أنا دون كيشوت المسرح” يقول جواد الأسدي من غير تردد ثم يستدرك مفسرا “بمعنى إحالة الإحباط إلى فعل ورغبة بالحركة من دون كلل أو ملل” ليصل بعدها إلى خلاصة سيرته في الفن التي تهب حياته معنى “لأن المسرح هو المساحة الوحيدة المتاحة لي وللممثلين لنقول الأشياء التي نريدها دون مكياج أو أقنعة”.

صار المسرح جنته

ولأنه كائن درامي هو مزيج من الأفكار والصور والأصوات فقد انتهى الأسدي إلى أن يعتبر خشبة المسرح جنته التي تختزل وقائع حياة عاشها بنبل فارس، لم يمنعه تشرده بين المدن من العثور في كل مرة على المنصة التي يطلق من عليها صيحته المبتّلة بالحزن الأبدي. حزن يوحي بأنه لا يزال ممسكا برقة شاعر بالخيط الذي يقوده مغمض العينين إلى كربلاء، المدينة التي ولد فيها عام 1947 في عائلة كان هو ابنها البكر. لذلك لم يكن مسرحه إلا نوعا من فكرته عن مسرح تمتد مساحة فعله الإنساني من أور التي شهدت وقائع ملحمة جلجامش قبل حوالي خمسة آلاف سنة إلى بيروت الحاضر التي يشهد فيها مبنى مسرح بابل الذي أقامه شخصيا بين حين وآخر واحدا من عروضه التي يؤكد من خلالها اختلافه الدائم، مرورا بـ”واقعة الطف” التي كانت مدينة نشأته تشهد إعادة تمثيلها كل سنة وبالمخيمات الفلسطينية التي كانت ملعبا لرؤى أبطاله الماضين إلى مصائرهم ببطولة أغريقية.

كان مسرح جواد الأسدي خلاصة لوحي الفن الذي وضع مخترعه في مكانة ميّزته عن سواه من المسرحيين العرب، لا باعتباره مخرجا أو كاتبا مسرحيا مختلفا وحسب بل وأيضا كونه المفكر المسرحي الذي لا تزال عروضه بشغبها وعنفوان تمردها تسعى إلى إخراج المسرح العربي من غرفة العناية المركزة التي انتهى إليها.

لغة مسرحه تتخطى لغة ممثليه

جواد الأسدي الذي نال عام 2004 جائزة الأمير كلاوس الهولندية للمسرح هو نباش القيعان السفلية للشخصيات المنتهكة كما يصف نفسه. قدرته على أن يصنع لغة للعرض المسرحي تقع خارج لغة الحوار التي ينطق بها الممثلون أهّلته لكي يقدم ذات مرة مسرحية (رأس المملوك جابر) وهي من تأليف الكاتب السوري الراحل سعدالله ونوس باللغة الإسبانية في فلانسيا، الأمر الذي يسلط الضوء على مهارة المخرج في الاتصال بالنص واستنهاض قدرة الممثل على التماهي مع متطلبات ذلك النص من غير أن تشكل اللغة عائقا. فلغة المسرح في صوريّتها بالنسبة إلى الأسدي هي أكثر سعة من لغة الممثلين، بل ومن لغة النص. شيء من شروط موسيقى الجسد يتسلل إليه أثناء البروفات التي ينظر إليها الأسدي من جهة جمالية وتربوية. لقد تعلم أن ينصت إلى الألم، باعتباره خلاصة مزيج من الأصوات التي لا تتسع لها لغة بعينها.

حزن الأسدي يوحي بأنه لا يزال ممسكا برقة شاعر بالخيط الذي يقوده مغمض العينين إلى كربلاء، المدينة التي ولد فيها، فحتى مسرحه كانت تمتد مساحة فعله الإنساني من أور التي شهدت وقائع ملحمة جلجامش قبل حوالي خمسة آلاف سنة إلى بيروت الحاضر التي يشهد فيها مبنى مسرح بابل الذي أقامه بنفسه

دمشق وقد احتضنته

في بداياته كان ممثلا بشر ظهوره على المسرح (في مسرحية تألق جواكان موريينا ومصرعه من تأليف بابلو نيرودا وإخراج فاضل خليل) بولادة ممثل سيكون له مستقبل واعد، الأمر الذي مهد له أن ينتمي إلى واحدة من أكثر الفرق المسرحية العراقية عراقة هي فرقة المسرح الفني الحديث فكان أن شهدت منصة (مسرح بغداد) سطوع نجمه ممثلا، غير أن ذهابه إلى صوفيا لإكمال دراسته الفنية التي أنهاها عام 1983 كان قد غير خرائط حياته. يومها استجاب الأسدي لمتطلبات لحظة التحول تلك التي انفتحت بعدها أبواب التفكير في المسرح أمامه بطريقة مختلفة، تقدمت من خلالها شخصية المعلم على شخصية التلميذ. لقد صار المسرح بالنسبة إلى الأسدي مشروع حياة متغيرة، وليس مجرد محاولة تصل به إلى الجمهور. لقد نضجت في خياله فكرة العرض المسرحي الخاص به، العرض الذي يقدمه فاتحا من جهة قدرته على التعبير عن الواقع جماليا على المسرح ومن خلاله، وهو ما منعه من العودة إلى العراق حرصا على حرية، كان يسعى من خلالها إلى تأثيث مسرحه بكائنات مستقلة تقول ما تراه ضروريا من غير رقابة حزبية. حتى ماركسيته صارت عنوانا إنسانيا وليس فخا حزبيا ضيقا. كان عليه يومها أن يخسر الكثير من أجل أن يربح المسرح، مسرحه الذي احتضنته دمشق بأريحية وتفاؤل.

وقد يكون القدر قد رتب أوراق علاقته بدمشق بعناية. يتذكر الأسدي أنه في مشروع تخرجه من أكاديمية الفنون الجميلة عام 1971 كان قد اختار بالصدفة عملا مسرحيا للكاتب السوري وليد إخلاصي بعنوان (الليلة نلعب). يقول عن ذلك المشروع ” لقد اخترته لحساسيته الشعرية التي أعدت تركيبها على طريقتي في إعادة بعث الأشياء بطريقة مختلفة. لقد أحدث العمل صدمة للطلاب والأساتذة وقيل يومها إنني أحمل الكثير مما يؤهلني لأكون مخرجا”.كان عمله الإخراجي قائما على نص سوري وكانت دمشق تحتضنه بعد سنوات مخرجا، لكن من البوابة الفلسطينية.

الأسدي نباش القيعان السفلية للشخصيات المنتهكة كما يصف نفسه، مستعملا قدرته على صنع لغة للعرض المسرحي تقع خارج لغة الحوار التي ينطق بها الممثلون وخاصة حين قدّم مسرحية “رأس المملوك جابر” وهي من تأليف سعدالله ونوس باللغة الإسبانية في فلانسيا

مسرحه الفلسطيني

حين أسس جواد الأسدي فرقة المسرح الوطني الفلسطيني بعد عودته من بلغاريا كان قد أدرك أن مغامرته قد وضعته وجها لوجه أمام سؤال هاملت الذي لطالما ردده ممثلا على خشبة المسرح “تكون أو لا تكون” كان مصيره يتربص به من جهة أن يكون حرا في محيط عقائدي مثقل بالشعارات السياسية المباشرة. ولأن الأسدي كان وفيا لقراره في أن يكون فنانا حرا، فقد نجا من المباشرة السياسية ليقدم خلال عشرة أعوام مسرحيات صنعت مجدا للمسرح الفلسطيني نال الأسدي من خلاله العديد من الجوائز التي صنعت له شهرة لم يحظ بها أي مسرحي عراقي.

كانت مسرحياته (العائلة توت 1983) و(خيوط من فضة 1985) و(الاغتصاب 1992) قد وضعته في الصف الأول من المخرجين المسرحيين الطليعيين العرب. لقد قدمه مسرحه الفلسطيني إلى العالم، كاتبا ومخرجا ومفكرا مسرحيا يجمع بين شكسبير وأنتونان أرتو، من غير أن يخفي حنينه الدائم إلى عالم الروسي تشيخوف الذي كانت نصوصه ولا تزال تجد لها موطئ قدم على خشبة المسرح التي يرعاها الأسدي برؤاه الفاتنة والمجنونة.

شهدت منصة مسرح بغداد سطوع نجم الأسدي ممثلا، غير أن ذهابه إلى صوفيا لإكمال دراسته الفنية التي أنهاها عام 1983 كان قد غير خرائط حياته، حين تقدمت شخصية المعلم على شخصية التلميذ

يومياته صارت مأثرته

ولأن جواد الأسدي لم يكتف بدور المخرج، شخصيته المركبة لم تكن تسمح له بذلك، فقد كتب مسرحه، وكان حريصا في الوقت نفسه أن يكتب يومياته، لتضمها كتبه كما في “جماليات البروفة” و”المسرح جنتي” وهما كتابان سيدخلان التاريخ الثقافي العربي من جهة كونهما ينتميان إلى صنف كتابي لم تعرفه الثقافة العربية من قبل. لقد حرص الأسدي من خلالهما على أن يوثق نظريته في المسرح، لكن من خلال ارتجال جمالي هو في حقيقته خلاصة تجربة حياة عاشها مؤلفا ومخرجا. هي مأثرته التي تؤكد اختلافه. هو ذا فنان عربي يعي أسباب تمرده ليندفع في توثيق خطواته التي هي من وجهة نظره قد فتحت طريقا جديدة للمسرح العربي. إنها بشارته التي كان الجمهور قد اطّلع على شيء منها حين حضر عروضه المسرحية.

كانت الحياة على المسرح بالنسبة إلى جواد الأسدي شيئا والعرض المسرحي شيء آخر. سيكون عليه بالتأكيد الاهتمام بصناعة ممثليه، غير أن الأهم كان يكمن في ما يفعله هو شخصيا بالنص الذي لن يكون مقروءا، بل ممسرحا. تستحق كتب الأسدي أن تكون مرجعا لنظرية جديدة في المسرح شبيهة بتلك النظريات التي غيرت تاريخ المسرح العالمي. لقد اجتهد الأسدي من خلال عروضه المسرحية بطريقة الرائي الذي اخترق أزمنة العرض تاريخيا بدءا من شارع الموكب في بابل وليس انتهاء بحمامه البغدادي، الذي هو لحظة استلهمها من جحيم دانتي. كان جواد الاسدي دائما ابن اللحظة العراقية التي تقيم في وحشة الطريق.

 

 

فاروق يوسف

 

http://www.alarabonline.org/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *