نسوة «مستلبات» يواجهن الذكورية مسرحياً

 

حالما تحتل المرأة خشبتين مسرحيتين متلاصقتين، شبه متزامنتين، بنصين متقاربين إلى حد الدهشة ومعالجتين متفاوتتين بالمقدار عينه، تفسح المقارنة بينهما متسعاً لقراءة تسترجع ما خفي أو غاب بين هذه وتلك. مدد مسرح مونو مجدداً عرض خلود ناصر «مرا لوحدا» (إخراج شادي الهبر) لأسبوع آخر ليتزامن مع بدء عرض مسرحية «زنود الست» للكاتبتين مروى خليل ووفاء حلاوي والمخرج شادي الزين. تلتقي المسرحيتان بجمهور من المتسللين إلى دواخل معاناة نساء يكدن يكنّ المرأة عينها بخطاب عابر للجغرافيا والتاريخ والجدران أيضاً، على رغم اختلاف المكان والزمان والظرف الاجتماعي، المرأة عينها في زيين متناقضين وعلى خشبتين يبرز تقشف الأولى سينوغرافياً بذخ الأخرى مضاعفاً.

قد يكون الثنائي داريو فو وفرانكا راما المسؤولين عن هذا التشابه الغريب بين المسرحيتين من خلال نص «امرأة وحيدة» (١٩٧٧) الذي ألّفاه معاً في سياق من التأثر بالأفكار اليسارية التي قاربت الماوية في لحظة من اللحظات والنسوية الراديكالية المنتمية إلى الموجة الثانية في السبعينات من القرن الماضي. وتقرّ «مرا لوحدا» بولائها للنص الأصلي، بل يلتزم الإنتاج بسداد حقوق النشر للكاتبين خلال فترة العرض. في حين أن «زنود الست» لا تعترف صراحة باستعارتها الوافرة من هذا النص وتكتفي بتلميح خجول جداً وغير مقنع. أما المشاهد فيدخل من باب القاعة الكبرى حيث ثلاثية تجسيد شخصية «أمل» التي تؤديها كل من وفاء حلاوي ومروى خليل وباتريسيا نمور في إطار كوميدي غنائي، ليخرج بعدها من الباب الجانبي للقاعة الصغرى حيث تلتمع شراسة الألم وسوداوية السخرية في عيني «ماريا» (خلود)، بهاجس الشبه: ما السر في هذا النص تحديداً؟ من هي تلك المرأة المتقمصة بعناد أجساد كل من خلود ووفاء ومروى وباتريسيا؟

يسرد نص فو/راما الأساسي لحظة مفصلية تصاعدية لدى امرأة تقبع سجينة في منزلها وفي حياتها الزوجية المسكونة بالعنف في شكليه الواقعي والرمزي. تتعرف المرأة عبر شرفة منزلها إلى جارتها التي لا تظهر للجمهور بتاتاً، فتبدأ رحلتها شبه المونولوجية في شكل تفاعل مع المحاورة الخفية، تروي خلالها تفاصيل من حياتها. ولا يلبث هذا الحوار الأحادي أن يتحول إلى مصارحة داخلية يشوبها الخوف والسخرية والكثير من العثرات والانفعالات، وصولاً إلى لحظة تنهار فيها منظومة الرضوخ كلياً. وتنتهي المسرحية بتفجّر الرغبة في التحرر عبر قتل المرأة السجينة لعشيقها وأخي زوجها المتحرش وزوجها المتسلط، كمعبر إلى إدراك ضرورة قتل الرجل الرمزي الذي يمثل النظام البطريركي لعلاقات السلطة. ولا شك في أن النص بحيويته وحساسيته هو نص إيديولوجي بالدرجة الأولى ويعكس طموحات المرحلة التاريخية التي خرج منها في منطق تكوينه وتطوره، كما ينظّر لمفهوم الماركي دو ساد في الموجة النسوية الثانية يُؤخذ عليه اختزاله المرأة في هوية واحدة تغفل التعدديات الطبقية والثقافية والدينية والعرقية والخصوصيات الفردية، على قدر اختزاله الصراع مع «البطريركية» بالمواجهة المباشرة مع الرجل المطلق المعمم.

 

ماريا والحرية

لعل خلود ناصر من أفضل اللواتي أدّين دور ماريا بطلة النص الأصلي بواقعية تعكس الأبعاد الداخلية لشخصيتها المقموعة والتواقة إلى الحرية. توزع ناصر انفعالاتها على المسرح كأنها عناصر من سينوغرافيا غير مرئية، كما تحدد نظراتها بدقة موقع كل من جارتها الوهمية التي تحاورها والجار البصّاص، وكأنهما جالسان بين الحضور، الذي تتجاذبه ثنائية الدنوّ الى حد التداخل في معاناتها والنأي عبر إدراكه موقعه المتفرّج المتنصل من الفعل. وتضبط الممثلة بأدائها التناقض بين الواقع التراجيدي للمرأة المجردة من إنسانيتها حتى في أكثر لحظاتها الحميمية، وبين الومضات الساخرة التي تستفز الجمهور ضحكاً رغماً عنه في عز المواجهة مع شعوره بالذنب والعجز. وتتصاعد في هذا الخط الدرامي حدة الاضطراب النفسي لدى المرأة المشرفة على الهستيريا فيفاقمه صوت الطفل الباكي ومزمار المشلول اللذين يبدوان كأنهما آتيان من مكان ما أقرب إلى الجمهور منه إلى المرأة، فيألف المشاهد نفسه متورطاً في آلية القمع ومن ثم شاهداً على القتل وفاقداً للمبادرة في كلتا الحالتين. وتشكل هذه العلاقة مع الجمهور مدخلاً صحياً لاستعادة السؤال الذي لا ينفك المسرح يطرحه عن ماهيته الكاثارثية ( التطهيرية في المعنى الإغريقي) والجمالية بين توجهاته الإبداعية والديداكتيكية المتنازعة.

 

زنود الست أمل

لا تختلف القصة كثيراً لدى أمل التي تعيش في مساحة مكتظة بالطاولات والكراسي والأواني المطبخية وبأطياف الرجال أيضاً، وهم الأزواج الثلاثة للنسخ الثلاث منها. تقفز «الأملات» الثلاث على المسرح في فساتين حمراء مصممة على طراز الخمسينات من القرن الماضي، محتفيات بالصورة الظاهرية النمطية لربة المنزل التقليدية. يضبط إيقاعَ السرد جهازُ تلفزيون يضيء الخشبة في الفترة الفاصلة بين دخول الجمهور إلى القاعة وإعلان بدء العرض. وتعرض هذه الشاشة إعلانات أميركية تعود هي الأخرى إلى الخمسينات. وتمثل تلك المرحلة دلالة تاريخية مهمة، وإن كانت خارجة عن السياق، على الفورة الاستهلاكية التي تلت الحرب العالمية الثانية بالتزامن مع ردّة المرأة إلى موقعها الاجتماعي «التقليدي» في المنزل، بعدما كانت اضطرت للخروج إلى العمل كممرضة أو عاملة في مصنع حينما كان الرجال منشغلين بالقتال على الجبهات الأوروبية.

أما علاقة «أمل» بجارتها الخفية فتتدرج من الإمعان في وهم السعادة الزوجية إلى لحظة سقوط القناع تحت وطأة فشلها في إعداد حلويات «زنود الست» للعشاء! وتجد أمل نفسها مضطرة الى مواجهة أمنياتها الخائبة ونقمتها الدفينة على رجل وعدها بنجوم الليل فأراها نجوم الظهر.

يتنقل العرض الطويل نسبياً بين مشاهد راقصة وتبدلات في الديكور تستنفد احتمالات وضعيات طاولات «السفرة» الثلاث الضخمة على المسرح الذي تقسمه إلى ثلاث مساحات صغيرة، تلعب فوقها الشخصية عينها في ثلاث هيئات متماهية، تكمل الواحدة حوار الأخرى أو تردده كالصدى. وعلى رغم سعي الأداء للبوح بالمكنونات الأنثوية لشخصية «أمل» الشبيهة بسندريلا في واقع مغاير تماماً للسعادة الأبدية التي تعد بها الأسطورة، فإن تمثيل هذا الواقع جاء قاصراً عن الانعكاس الحقيقي لذهنية المرأة وتعقيدات حياتها وطموحاتها وخصوصيتها المعاصرة. بل إن العرض ككل أمعن في تجريد هذا الواقع حتى طفا على سطح اللغة وسط تركيب من العبارات التي تنطوي على كم كبير من الكليشيهات المتوارثة حول المرأة وأطوارها الاجتماعية. ولم يستغل العرض ايضاً فرصة التجسيد الثلاثي لشخصية «أمل» لتوظيفه في إغنائها عمقاً وتلوناً وإشكالاً. وقد تكون المفارقة الأبرز في هذا السياق «نجاح» المسرحية بقصد أو من دون قصد في التعبير عن تغريب المرأة عن ذاتها وواقعها وظروفها وفردانيتها وعن شكل الصراع والمواجهة مع الرجل.

 

 

 

http://news.yemeneconomist.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *