إسماعيل فهد إسماعيل ومسرحية تعلن أن لكل ‘حدث بقية’

 


 

أصدر الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل ما يقارب عن 24 رواية منذ أن صدرت روايته الأولى “كانت السماء زرقاء” عام 1970. ولم يكتف بإبداعاته في مجال الرواية، بل إنه عمد إلى إصدار ثلاث مجموعات قصصية أولها صدرت في العراق عام 1965، بعنوان “بقعة داكنة” في بداية نشاطه الإبداعي، ثم أصدر مجموعتين في الكويت.

في مجال المسرحية نشر إسماعيل مسرحيتين إضافة إلى كتابة الدراسات التي قاربت حتى الآن 6 دراسات في المسرح والقصة القصيرة والرواية.

يهدي الروائي إسماعيل فهد إسماعيل مسرحيته الثانية “للحدث بقية” للمسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس باعتباره ما زال حاضرا، مضمنا بدايتها سؤالا إشكاليا غير بريء يسميه (عامل نص) يقول فيه: “قيل عن التاريخ -بصفته حاضن أحداث- إنه صاحب نزوات، وأنه لو شاء محاكاة أحد أحداثه الماضية لأعاده على شاكلة مهزلة، والمهزلة بالمعنى المتفق عليه لا تمت للكوميديا بصلة، والسؤال الذي يرد إلى الذهن: ماذا لو أن الحدث الأصلي -وقد حاكاه التاريخ الآن- كان مهزلة صرفا؟”.

بهذا السؤال غير البريء يفتتح الروائي مسرحيته “للحدث بقية” الصادرة عام 2008 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، التي تتناول محنة الشاعر الأندلسي ابن زيدون. وتتكون المسرحية من أربعة مناظر تتناول مكابدات الشاعر حين يجمع بين الشعر والسياسة، فالتاريخ يخبرنا أن ابن زيدون كان يلقب بـ”ذي الوزارتين” جراء إتقانه، فائق الحد، للحرفتين: الشعر والسياسة، كما يرد في المتن.

ويظهر ابن زيدون على خشبة المسرح في المنظر الأول وهو يخاطب جمهورا غير جمهوره، فالمؤلف ينتزعه من بيئته ويقدمه شاهدا من شواهد التاريخ على حاضر يعيش حالة تشابه في الحياة السياسية.

وعلى الرغم من أن الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، يبقي بطله بحدود عصره من الناحية الشكلية (الملابس والمكان واللغة)، إلا أن خطابه يتجه نحو الحاضر عبر رحلة تعريفية بحياة ومكابدات الشاعر ابن زيدون، وما تعرض له من اضطهاد وسجن وتشريد بسبب آرائه السياسية التي تنتصر للمظلومين. في المنظر الأول يقدم ابن زيدون نفسه إلى المشاهد المعاصر قائلا: “أندلسي من أهالي حاضرة قرطبة.. ولدت في مطلع القرن الحادي عشر من الحساب الإفرنجي عشرة قرون فارق زمننا عن زمنكم”. وبالتناوب مع الجوقة يتم توصيف عصره بشكل مكثف: “ما بين يوم وليلة صرنا إحدى وعشرين دولة”، ويعقب ابن زيدون قائلا: “اسم على مسمى.. ملوك الطوائف”.

وملوك الطوائف حسب الجوقة هم: “ليس لأحدهم في الخلافة إرث ولا سبب، ولا في شروط الإمامة مكتسب، اقتطعوا الأقطار، واقتسموا المدائن الكبرى.. وانتحلوا الألقاب وكتب عنهم الكتاب”. وتأييدا لكلام الجوقة يحيط ابن زيدون الصالة بيده ويقول: “ما أشبه اليوم بالبارحة”.

وتتضح صورة البارحة، بأشباه الرجال أتباع الوزير الذين يعيثون فسادا في الساحات والطرقات.. يصادرون الناس والأموال بحجة الإعداد لمحاربة الأعداء، وعندما يجن الليل ينشط قطاع الطرق واللصوص تحت أعين رجال الأمن فيستبيحون طرقات قرطبة وميادينها.

ثم يستشهد المؤلف على لسان الجوقة بما كتبه المؤرخ ابن حزم عن عصره قائلا: “اضطر أهالي قرطبة لاستفتاء شيوخ المالكية من أجل تعجيل صلاة العتمة، قبل وقتها خوفا من القتل إذ كان المتلصصة يقفون لهم في الظلام”.

قيل عن التاريخ إنه صاحب نزوات وأنه لو شاء محاكاة أحد أحداثه الماضية لأعاده على شاكلة مهزلة

ومن إيحاء العنوان “للحدث بقية” يعمد الروائي إلى تكثيف المناظر الثلاثة الأخرى، باتجاه يكشف محنة الشاعر والأديب حين يعيش الأحداث السياسية أو يشترك فيها، الأمر الذي يضعه في زاوية ضيقة فيفرض عليه نظاما من العسف والتضييق، لأنه أينما حل يكون ضوءا يعشي عيون مضطهديه، ولذا يضعونه في سجن انفرادي وهذا ما حصل للشاعر ابن زيدون.

كما أن محنته التي حدثت منذ عشرة قرون يراها هو من على خشبة المسرح، وقد تكررت وتعقدت فالطوائف دول وأحزاب ما زالت تمارس سطوتها على العالم العربي الإسلامي منذ ذلك التاريخ، وأشكال الظلم والعسف تتعدد وتتعقد.

وفي نفس المنظر الأول يستفيد الروائي من نونية ابن زيدون الشهيرة وقصائده، التي عرفتنا بمكابداته ومعاناته لكتابة سيرته الذاتية، بدلا من سجلات التاريخ التي يختلط فيها الخيال والكذب بالحقيقة، فيتم التعريف بعلاقة الحب بينه وبين ولادة بنت المستكفي حتى سمي هذا الحب بـ”ابن زيدون ولادة” شأن علاقات الحب الشهيرة في التأريخ العربي: قيس ليلى، جميل بثينة، وكثير عزة.

ومن سجلات التاريخ يستفيد المنظران الثاني والثالث، ليكشف المؤلف مؤامرة أمير قرطبة أبي حزم بن جهور الذي لفق تهمة للشاعر ونصب قاضيا جاهلا (في المسرحية ضابط شرطة)، ليحكم عليه بالحبس المطلق الذي يعني حسب القاضي/ ضابط الشرطة بقاء صاحب العلاقة بالسجن لحين موته هناك.. حتى وإن تجاوز عمره المئة عام.

غير أن الشاعر الذي يعيش عزلة مفروضة من الحاكم عليه لا يرتضي ذلك، ويعمل على فك حبسه بالهرب الذي يتم بمساعدة بعض محبيه من ضباط الشرطة، وبعد هروبه من السجن يعيش حياته بعيدا عن حبيبتيه: قرطبة وولادة. وبعيدا عن سجلات التاريخ يرسم الروائي للشاعر ابن زيدون حياة خيالية لائقة بشاعر مثله؛ فهو يعيش ضمن أجواء الحب والتقدير سواء في الوزارة أو في أسواق قرطبة، حيث يحتفى به أينما حل، أما نهاية المسرحية التي يجسدها المنظر الرابع فيعلن الروائي فيه موقفا يخالف سجلات التاريخ إذ يرفض ابن زيدون وظيفة الوزارة التي يعطيها له صديقه أبو الوليد بعد وفاة أبيه أبي الحزم، ويقرر الانضمام إلى الجوقة باعتباره شاهد عيان على أحداث زمنه.

وتتأكد هذه الوظيفة من تضمينات المؤلف لقصائد الشاعر وتفسيرها من قبل الجوقة، بالاتجاه الذي يعني إدانة الشاعر لعصره في قصائد الهجاء المرة التي كتبها ضد الوشاة، وأيضا في قصائد المديح التي تدعو إلى إغاثته؛ فقد قرأها المؤلف قراءة جديدة بالاتجاه الذي يجعلها حمالة أوجه (المدح والذم في آن).

مسرحية “للحدث بقية” رحلة عن وظيفة الإبداع والمبدعين من عمق تاريخنا إلى حاضرنا المشبع بألف التباس والتباس.

 

جميل الشبيبي

http://www.alarabonline.org/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *