مسرح – لا بدّ من تخريب كل شيء في “البطة البرية” لهنريك ابسن

 

 

 

يغرقنا هنريك ابسن، في هذه المسرحية، في عالم عائلتين يربطهما ماض قديم مضطرب، حيث لا شيء بسيط كما يبدو. وجدت هذه الدراما الأبسنية الصعبة جدا، صدى معاصرا في إخراج ستيفان براونشفايغ، على الرغم من توجه السينوغرافيا والاعداد نحو النغمات النفسية، حيث اقترح المخرج رؤية فرويدية، عندما قرر أن لا يستحضر شخصية الأب هاكون فرنيه على خشبة المسرح، مختصرا وجوده بصورة عملاقة من خلال شريط الفيديو، مخاطباً جرجيرز، الابن الجالس على الخشبة، بحيث بدا هذا الأخير، صغيرا جدا أمام قامة أبيه الساحقة.

انطلاقا من صورة الأب العملاقة يمكننا قراءة أحداث المسرحية كلها. الأب على رأس شركة غابات كبيرة في النروج، وقد اشتبه به في ما مضى، بعملية اختلاس استطاع أن يفلت منها بقدرة قادر، على عكس العجوز اكدال، الذي يعيش مع ابنه هيلمر وزوجته جينا وابنتهما هدفيج. تربط اكدال العجوز علاقة غريبة مع صاحب عمله السابق هاكون فرنيه، الذي استمر بدفع بعض الاموال القليلة له. فهل يشعر هذا الاخير، بدين قديم، حيال اكدال العجوز؟! يصبح هذا السؤال مدعاة للقلق أكثر، عندما يكتشف المقربون منه أن الأب هاكون فرنيه، يلتزم أيضا، دفع منحة سخية إلى هدفيج حفيدة العجوز اكدال مدى الحياة. هذا بالإضافة إلى مساعدته هيلمر، في بناء ستوديو التصوير الذي تساعده فيه زوجته جينا، في عمل الرتوش. إن الخطوط الرئيسية للدوافع النفسية، تكشف بشكل تدريجي، خاصة عندما نعلم أن الدعم المالي هو تسديد لبعض الأخطاء الفاحشة التي نرتكبها في الماضي، وأن المشاعر تكلف المرء الكثير، وأن بعض الحب يترك وراءه، في الكثير من الاحيان، بعض الديون والالتزامات، وأن الشخص المانح غالبا ما يحاول شراء بعض الذنوب. خلف جميع هذه الترتيبات، تأخذ شخصية هدفيج المراهقة، مكانة درامية كبيرة، لأن هناك شكاً في هوية والدها الأصلي. لكن، حتى لو كانت جميع هذه المميزات واضحة، فهي ليست كافية اليوم لطرح تحدٍّ للحياة المسرحية على المدى الطويل.
ولد الكاتب النروجي ابسن في عام 1818 وتوفي في عام 1900، وقد طرح في هذه المسرحية، ثلاث رؤى: رؤية مثالية تجسدت في شخصية ابنه جريجرز، الذي يريد ان يكشف الغطاء عن الحقيقة الكاملة، حتى لو اضطره ذلك، الى تقديم تضحيات على خلفية دينية، حيث يواجه صاحبه هيلمر بالحقيقة المرة، التي تقول إن أباه هاكون فرينه كان على علاقة سابقة مع امرأته جينا عندما كانت تشتغل عنده، وهذا هو السبب وراء مساعدته له في بناء ستوديو التصوير؛ رؤية واقعية تتمثل في هيلمر الزوج الذي يريد أن يحمي اسرته وحياته الزوجية، ولكن بافتضاح أمر العلاقة، يكتشف أن هدفيج ليست ابنته إنما ابنة هاكون فرينه، وذلك من خلال خطاب يقع في يده؛ ورؤية رمزية، تتجسد من خلال الفتاة البريئة هدفيج، التي ترمز في هذا الصراع المحتدم إلى البطة البرية، العليلة التي يمكن التضحية بها لتصفية حسابات الكبار وأفعالهم، على الرغم من حاجتها الدائمة إلى الحماية. بعد أن يكتشف أبوها هيلمر، أنها ليست من صلبه، يرفضها ويمتنع حتى عن رؤيتها أو سماع صوتها، فيطلب منها جريجرز، أن تقتل البطة البرية، لتبرهن لأبيها غير البيولوجي مدى استعدادها للتضحية من أجله. لكن هدفيج بدلا من أن تقتل البطة البرية، تطلق على نفسها الرصاص من المسدس المعلق على احد جدران البيت، وكأننا امام منطق تشيخوف الذي يقول، عندما نرى بندقية معلقة على الحائط في المشهد الأول، علينا أن نسمع صوت اطلاق رصاصها في آخره. ففي المسرح كل شيء له وظيفة ودلالة، ولا وجود لكل ما هو زائد. عندما تموت الفتاة التي رمز اليها ابسن بالبطة البرية، يتزعزع كل شيء ويتغير، ويدفع الجميع إلى اعادة النظر في مفهوم الوفاء والمثالية والأخلاق. يتمثل الطرح الأخلاقي الذي ينتمي إلى البروتستانتية الجامدة، في شخصية جريجرز، المتضرر والعصبي المزاج، تأدية الممثل الفرنسي كلود ديبروفت، ويطور هاجسه الشفاف والنقي من خلال لعبه المتجهم الوجه ومشيته المعقودة. إلى جانبه الممثلة كلو، والممثل رودلف، اللذان لعبا دور الزوج والزوجة جينا وهيلمر، بالطريقة التي ارادها لهما الإخراج، الذي صورهما وهما يميلان مرة نحو الميلودراما التي عفا عليها الزمان، والذي لا نعرف فيما اذا كان علينا أن نضحك منها حقا أم لا، ومرة يميلان نحو الرتابة البورجوازية المملة التي تترك المتفرج في حيرة من أمره، أثناء المشاهدة. هذا هو الجو الغامض الذي استخدم في الاخراج، الذي يجعل البعض يقدره ويحترمه لانضباطه وصرامته، ويجعل البعض الآخر، يتنفس الصعداء عند بعض الاختراقات الهزلية.
تصميم الديكور، يحمل في شكله ومضمونه، دلالات وصورا مزدوجة. بحيث نرى البيت الذي يسكن فيه الجميع، على هيئة مربع خشبي ضخم على المسرح، ليحبس الخلية الاسرية، بشكل محكم، وفي الوقت نفسه، يدعو إلى الحرية، من خلال جداره الخلفي الذي يطل على منظر غابة شاسعة. بين قسوة المذهب الطبيعي، والغابة التي تدعو إلى الحرية والخلاص، كان هناك عالم يعاني من القيود المتأصلة في المسرحية نفسها، الذي يضع فيه ابسن تردده بين العالم المحافظ والعالم الحديث. هذا في الحقيقة، ما عرّضه للنقد دائما. وجد أنصار ابسن ضالتهم في السينوغرافيا الأنيقة، والصارمة في آن واحد.
في هذا النص، الذي يحمل الكثير من الأفكار، هناك ارتفاع وذهاب نحو الحقيقة، حيث يدخلنا ابسن في عالم يكاد أن يكون هامشيا، عارضا فيه بين المثالية وخداع الذات، من خلال عكسه لشرطنا الانساني من خلال السخرية القاطنة في وقتنا الحاضر. تظهر البطة البرية مثل انعكاس للذنوب والتضحيات التي لا لزوم لها. فـجريجرز يعاني من عقدة الشعور بالذنب بسبب افعال أبيه، ويريد أن يخفف من وطأتها على ضميره الشخصي، واستعادة الحقيقة، والشفافية لعائلة العجوز أكدال. هكذا، يضغط على الزر الذي يفجر الدراما، فيحرك الماضي القديم الراكد في اعماق الكثير من شخصياته، وهذا فعل تخريبي، لكنه صادق.
لا بد من تخريب كل شيء من أجل اعادة بنائه من جديد، ولكن بإخلاص. هذه هي الحقيقة المثالية التي يعالجها ابسن، بنوع من السخرية، من خلال الاعترافات السرية التي تكون لها عواقب وخيمة على الشخصية البريئة الوحيدة في المسرحية. ففي الاندفاع والتفجر المفاجئ، يسجل ابسن نفسه في واقعنا، ويسائل الحدود الفاصلة الموجودة بين البحث الداخلي، والمطابقة والاحترام والمظاهر. ومن أجل أن تهرب الشخصيات من الوضوح والرتابة، تهرع إلى غرفها الخاصة، مكان كل الأوهام، الذي يرسمه المخرج براونشفايغ، في قلب الغابة، لكي تحلم بحياة أفضل، يحيط بها جوهر الطبيعة. يرسم المخرج لشخصيات مسرحيته، غابة من الصنوبر، لتكون فضاءً خياليا، تلجأ إليه، لتعود من جديد إلى مبدأ الحياة نفسه، وإلى الطبيعة الخالية من الأكاذيب. الاختيار السينوغرافي للواجهتين، الداخلية والخارجية، يوضح الانقطاع بين الواقع والحلم. هذه الرؤية، بقدر ما هي قوية ومثيرة للإعجاب، تتقاطع مع التقسيم الجاف للهيكل الخشبي، الخالي من السحر، على خشبة المسرح، لكي يمثل صالون بيت اسرة أكدال العجوز. أشجار الصنوبر في خلفية المسرح، تحت سماء تتلون بشكل تدريجي، تكشف عن وجود كون بلا نهاية، يشير إلى الاعتقاد، بأن هناك عالما جديدا يمكن بناؤه.

 

 

محمد سيف

 

http://newspaper.annahar.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *