مسرح – “ميشال وسمير” هلوسات مسرحية تهريجية قارصة على “مسرح الجميزة” جو قديح اختصر في مصحّ عقلي مجتمعاً نعيش فيه

 

بعدما جال جو قديح على عاهات مجتمعنا اللبناني وفصّل منه نقداً مسرحياً طريفاً، ولاذعاً، يضحك ولا يجرح، نعود ونلتقي به على خشبة مسرح الجميزة، هذا المسرح الحميمي الذي وجد مساحته في مدرسة الفرير، الجميزة، في مسرحية “ميشال وسمير”، لا ممثلا وحدانيا كما عهدناه، بل كاتبا ومخرجا حطّ قدميه في لب مصح عقلي، محرّكا الساعة البيولوجية في فوضى حواس العقارب وتكتكاتها.

بين أوديب الملك وواقع مجنون يعيش فيه إنسان الحاضر، طبخة سوريالية جمع جو قديح مقاديرها من آفات الجنون، من جنون العظمة إلى الغيرة القاتلة والبارانويا والسكيزوفرينيا، وأحيانا نستشف جنوناً متزناً يجعل المجنون يعي أن العالم الذي يحيط به غير طبيعي. أفيكون هذا المجنون هو أولاً جو قديح؟ ومن كثرة هلوساته الوجودية، وتأملاته في تراجيديا البشرية، مضى إلى التهريج والهزل يخيط من قماشهما الأليف مكاناً هو أكثر من مصح عقلي، نجد فيه حالنا في جغرافيتنا العربية الموسومة بجنون الإبادات والقتل تارة، وطوراً حين يجن جنون الطبيب المعالج (أنطوان بلابان) ويغدو أخطر إصابة من نزلاء المصح، متعريا من ثوب الطبيب النفسي لاقتناعه بأنه أوديب الملك الباحث داخل أبواب طيبا عن قاتل والده لايوس، إلى أن يكتشف أنه هو القاتل، فيما المختلان ميشال (هيشام حداد) وسمير (رودريك سليمان) المتعاركان على حبة الدواء، وعلى حب الطبيبة (ماغي بدوي) يغدوان في تراجيديا أوديب المتزوّج من أمه جوكاست كي تتم تنبؤات قارئة الغيب، ولدي أوديب إيتيوكل وبولينيس.
اللعبة حذقة كتبها جو قديح واشتغلها على ممثلين بارعين في تبديل أدوارهم، مجانين في المصح العقلي ترتكز أزمتهم على علاقتهم بالأم، وجنس ضائع بين الذكورية والأنثوية، وحين يدخل الطبيب المعالج شبه عار، يصارع السبعة على أبواب طيبا، يغدوان بسحر ساحر تلك الأسطورة الإغريقية التي لا تزال على خشبات المسارح العالمية توسوس في أدمغة المسرحيين. كأن جو قديح في تشخصه مصحاً للمجانين لا يتعافى منه أحد حتى تبقى اللعنة التي تنبأت بها قارئة الغيب على قدر أوديب، فاعلة في كل زمن، أعاد إلى ذاكرتنا شخصية أوديب بتعقداتها كما جاءت عبر الأزمنة بوحي من سينيك واشيل وصوفوكل في زمن الإغريق، ثم في الأزمنة المعاصرة جان أنوي وجان كوكتو ويونيسكو، لا ليعيدها على المسرح اللبناني بصيغتها التراجيدية بل من خواصها صورة ساخرة عن عالمنا المحاصر في بوتقة الثأر والقتل والانتحار، ولم يجد له حلبة يمارس عليها عداءه وانفصامه سوى معقل المجانين.
على الخشبة ثلاثة ممثلين بارعين في إيصال الرسالة، من التهريج الذي يسلّي الجمهور ويضحكه، إلى التركيز في المغزى المخفي تحت طبقات الهزل والدعابة. لقد أضاء نص جو قديح على العلّة التي تصل بالمصاب إلى تلك الازدواجية التي يضل على مفترقيها دربه، فإذا بأوديب المسكون باللعنة يهمس في فكره مسرحية عنوانها “ميشال وسمير”، حيث النزيلان ينصبغان بإبني أوديب حتى الاقتتال والموت.
بين الضحك والفاجعة لعلي في مشاهدتي عمل جو قديح الرائع، كنت حتى النهاية في الخانة الثانية، تاركة المواقف الطريفة والهزلية لمن لا يزالون يتقنون فن الضحك. ففي تراجيديا الجنون حيث المجنون ينتابه هذيان يعيده إلى سن الطفولة فيتذكر ميشال بأنه كان بنتاً تسرّح لها أمها شعرها وتعقده بالشرائط الحمراء،لا يتعجب سمير، فالمجانين يفقدون سر الدهشة، أما حين يسأله عن أمه، فيتلقى ميشال السؤال كاللسعة المميتة، ويهجم عليه يود قتله، مانعا إياه من أن يأتي على سيرة والدته. أمام هذا المشهد العبثي يمكن أن يكر المشاهد من الضحك كما أن يصاب بالكآبة. يبقى ان جو قديح وجد لشخصيات مسرحيته ثلاثة ممثلين ما إن وطئوا الخشبة حتى اندفعوا تحت وطأة الموضوع يسكبون على الناس هلوساتهم وجنونهم وحقيقة أوديب لا أسطورته.

 

 

م. م.

http://newspaper.annahar.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *