تجربته المسرحية تجربة جسد آخر وزمن آخر وفضاء آخر – أنتونان آرتو .. “فان كوخ” الشعر المسرحي

وقع بين يديّ مخطوط كتاب مهم جداً حول “مسرح القسوة”، من خلال تجارب مؤسسه، رائد التنظير الرؤيوي في هذا المسرح، الفرنسي الكبير أنتونان آرتو. والكتاب يحمل عنوان:”مسرح القسوة والمسارح التجريبية الحديثة”، للمؤلف د. سعيد كريمي.

يذكر المؤلف أن اختياره لموضوع الكتاب، كان نتيجة منطقية للأهمية البالغة التي يكتسبها “مسرح القسوة” في شخص منظّره الفنان أنتونان آرتو، الذي أحدث فتحاً عظيماً في الميدان المسرحي العالمي، وأرّخ لميلاد تجربة جديدة متفردة المعالم والقسمات. فمسرح القسوة يخلق رؤية جديدة، ويقيم علاقات مغايرة بالثقافة الإنسانية، تخرج من دائرة الإتباع الى الأفق المفتوح للإبداع، وتتجاوز المتفق عليه إلى المختلف فيه.
ومن دوافع تأليفه الكتاب بعد، يذكر د. سعيد كريمي بأن البيت المسرحي العربي يكاد يكون خالياً من الأبحاث الأكاديمية المختصّة بالتجربة المسرحية الآرتوية. وعليه فهو وجد أنه من المفيد جداً ركوب هذه المغامرة المحفوفة بالمنزلقات والصعوبات، للإسهام في تشييد صرح مسرحي عربي مكتمل الحلقات. كما أن الخوض في موضوع بكر، من ِشأنه فتح آفاق جديدة للبحث العلمي، ذلك أنه على الرغم من كون التجربة الآرتوية أضحت اليوم أشهر من نار على علم، إلا أن معرفة القارىء العربي بها، لا تكاد تتجاوز حزمة من المقالات المتناثرة ذات اليمين وذات الشمال، والمنطوي بعضها على مجموعة من المغالطات! وبعض الكتابات المترجمة على علاتها. وما خلا هذه المحاولات، فإن الإسهامات الأخرى تبقى محتشمة، ولا تجرؤ على النبش في ما خلف أنتونان آرتو عن مسرح القسوة، ما يجعل رفوف المكتبات العربية الشاغرة في أمسّ الحاجة إلى أبحاث جادة من هذا القبيل.
آرتو السريالي الجارح
والمعروف عن أنتونان آرتو (1896- 1948) أنه كان، بالإضافة إلى كونه مسرحياً، بمعنى التأليف والتمثيل والإخراج والنقد دفعة واحدة، كان شاعراً سريالياً مؤسساً وجارحاً أيضاً، مع رائد الحركة السريالية، الشاعر أندريه بروتون، صاحب إعلان “مبادىء الحركة السريالية” في العام 1920. وقد عيّن آرتو مديراً “للمكتب المركزي للبحوث السريالية”، وذك بعد مرور أربع سنوات على انضمامه للحركة السريالية في العام 1924. لكن آرتو سرعان ما اختلف مع أندريه بروتون في العام 1926، وترك الحركة السريالية ليؤسس “مسرح ألفريد جاري” بالتعاون مع “روجر فتراك”، وقام بإخراج مسرحيات عدة، مثل “حلم” و”أسرار الحب”، وذلك انطلاقاً من تأسيسه “مسرح القسوة” في العام 1935، مطبقاً فيه أفكاره، وطرائقه، وتجريباته المسرحية الخصوصية، التي كسر خلالها كل تقاليد فن الخشبة، وتجلياتها في زمنه، خصوصاً من خلال عرض مسرحيته: “آل سنسي”.
ولقد أعطى أنتونان آرتو الممثل المسرحي، الحرية المطلقة في لعبته الدرامية العامة في أثناء العرض.. هكذا من دون أي قواعد ملزمة، أو “مناهج” استمساك فنية، ضمنية أو شكلية. لكنه في المقابل، اشترط على الممثل أن يمتلك قدرات حركية، وصوتية، وأدائية عالية التميز والتأثير، بخاصة بعدما ألغى جدران المسرح، وصالته العامرة بالزخارف والرسوم، وأدمج، بالتالي الممثل بالمشاهد، وقال بمعمار مسرحي مشترك بين الجميع.
طبعاً، خلاف المسرحي أنتونان آرتو مع الشاعر أندريه بروتون (بحسب البعض)، لم يقم على أسس سياسية “ماركسية”، كان آرتو متأثراً بها، ويرفضها بروتون، وإنما لأن آرتو، كان لا يطيق التنظير فوق رأسه، وكانت حساسيته الإبداعية “المرضية” تتجاوز بأضعاف حساسية بروتون “المعدنية” التنظيمية.
وكان آرتو ثائراً على كل شيء في مسرحه، بما في ذلك الأدلجة السياسية وحتى رائحتها غالباً. ويبدو أن موقفه المتمرد على اللغة الكلامية ومكانتها داخل المسرح، قد شكل، بحسب د. كريمي، أحد المفاتيح المهمة في شعرية مسرح القسوة. فقد رأى فناننا الرائد، أن اللغة النصية المسرحية تظل محدودة، ولا يمكنها بالتالي التعبير عن كل المواقف والمشاعر، التي يمكن أن تنتاب الإنسان. ولهذا السبب، عمل آرتو على جعلها مجرد عنصر من العناصر المكونة لمجموع نسق العرض، وفسح المجال للغة الهيروغليفية / الجسدية، لتطفو على السطح، وتعبّر ببلاغة عما تعجز عنه اللغة الكلامية. وفي السياق نفسه، حسم آرتو الصراع بين مناصري النص، ومناصري العرض، بالانتصار لمصلحة الفريق الثاني، وجعل من النص المسرحي نقطة انطلاق للمخرج الذي يتصرف فيه كما يحلو له، إلى درجة أنه يمكنه أن يلغيه إذا كان ذلك يخدم تصوره الإخراجي، ورؤيته الجمالية.
تصحيح الوضع الغربي الشاذ
وقد سعى أرتو إلى تصحيح الوضع الشاذ الذي يعيشه المسرح الغربي الغارق في اقتراح الحلول للمشكلات السايكولوجية، التي هي من إفرازات النسق الثقافي الغربي الرث، بردّ الاعتبار إلى فن المفارقات في المسرح، وجعله يستعيد قوته التعبيرية التي تمتح من المرئي والمسموع والشفهي والمكتوب.
وقد تحوّل المخرج المسرحي في مسرح القسوة إلى النواة الأساسية التي يقوم عليها العمل المسرحي، بعدما كان مجرد عبد تابع للمؤلف، وأضحى من واجبه استغلال كل الإمكانيات التعبيرية لملء الفضاء المسرحي، الذي هو مكان فارغ ينتظر الملء. كما أن عليه أيضاً استثمار القسوة الكونية لخلق عالم يشي بمأسوية الحياة وسوداويتها، والدفع بالعرض لمسرحي الى الجمع بين الميتافيزيقي والفيزيقي، والمجرد والملموس، حتى يتسنى للمسرح استعادة شموليته وأبوته للفنون.
تغيير مسار التجريب المسرحي
ومن وجهة نظر د. سعيد كريمي، يقف مسرح القسوة في مقدمة المسارح التجريبية الطليعية، التي أعلنت حرباً ضروساً على المسارح السائدة، وأرست لبنات مسرح جديد، يقوم على جدلية الهدم والبناء والاحتواء والتجاوز.
وإذا كانت الطليعة تقتضي الزعامة، ومواجهة الخطر، و”رفض” الماضي، كمرجعية للحاضر والمستقبل، وإدراك للممكن والمحتمل في حركة الأشياء، فإن مسرح القسوة تنطبق عليه هذه المواصفات. ولعل ذلك هو الذي دفع بالمسارح الطليعية التي أعقبته إلى محاولة محاكاته والنسج على منواله.. ومن باب تحصيل الحاصل القول إن جل روّاد المسارح التجريبية، هم أبناء لأنتونان آرتو، الذي قدم فلسفة مسرحية مارست، وما زالت تمارس تأثيراً كبيراً، مغرياً وملهماً ومحفزاً لتجارب مسرحية لاحقة.
وانسجاماً مع صعوبة حجم تأثير آرتو على الأدب والفن بشكل عام (بما في ذلك الشعر والرسم والمسرح) يرى لبعض أن أكبر رجل صنع المسرح الجديد، وفنيات عروضه، هو أنتونان آرتو، الذي نجده حاضراً في أعمال شارل دولان في فرنسا، وروجي بلانشو، ويور خيليفلي في الإرجنتين، وبيتر بروك في بريطانيا، وجروتوفسكي في بولونيا. كما نجد تعاليمه تطبق على وجه الخصوص في الاتجاهات المسرحية الطليعية في الولايات المتحدة، أي إنجازات “مسرح الواقعة”، و”مسرح الدمى”، و”المسرح المفتوح”، و”المسرح الأسود”، والمسرح مهرجان نفسه”.. إلخ.
وهذا يعني أن تأثير مسرح القسوة، امتد ليشمل معظم المسارح التجريبية الطليعية في بلدان مختلفة من العالم. وقد أخذ منه البعض مفهومه للمسرح الشامل، والبعض نظريته حول القسوة، والبعض الآخر، رفضه لهيمنة الأدب والنص على المسرح.. أي أن كل جانب، استلهم من مسرح القسوة ما رآه مكمّلاً ومطعّماً لتصوره المسرحي. وبذلك صار أنتونان آرتو ومسرحه، معيناً فياضاً، ينهل منه كل متعطش الى التجديد والتجريب، وكل مجنون بالخلق والابتكار. وهو ما أعطى لمسرح القسوة قيمته التاريخية. يقول جون لوي بارو:” من الطبيعي أن يهرول الجيل الحالي نحو آرتو لسبب واحد، وهو أن عمله عمل إنسان معذب. إنه على نحو ما “فان كوخ” الشعر المسرحي، وهو حاضر على مجموعة من الواجهات، وكل واحد ينظر إليه من الوجهة التي تناسبه، وينسى المفارقات في بعض الأحيان”.
تأسيساً على ذلك، فإن تشبيه بارو لآرتو بفان كوخ المسرح الشعري، وتأثيره الواسع على المسرح التجريبي الفرنسي، يعكس بوضوح كيف أن آرتو أرسى معالم مدرسة مسرحية اكتسحت الحدود، واخترقت الآفاق، لتكون في الطليعة بثوريتها، وتمردها على المسارح التقليدية القائمة. إن تجربة آرتو، هي تجربة جسد آخر، وزمن آخر، وفضاء آخر.. أليس هذا ما كان يبحث عنه بيأس؟.
تجسيد الاختلاف والمغايرة
إن مسرح القسوة يجسد الاختلاف والمغايرة، ويبحث من دون كلل عن تجريب شكل مسرحي جديد، يجعل من القسوة، واللغة الهيروغليفية، والطقوس، والعودة إلى الأصول، بعض مرتكزاته، ويسير في اتجاه إقرار تفرده وتميزه ونبوئيته.. كيف لا وأنتونان آرتو، هو صاحب رؤية، وهو ضحية في الآن عينه. إنه جسد عانى أوقاتاً من الاضطراب في لبّ عظامه، كما أنه عقل رحالة بحثاً عن عالمه.
ولعل سمة البحث المستمر، هو ما جعل من عمل آرتو المسرحي عملاً يقفز على زمانه ليعانق الأزمنة المستقبلية، التي حاول فيها الفلاسفة من أمثال: ميشيل فوكو، جيل دولوز، فلكس كاتاري، موريس بلانشو، جاك دريدا، وغيرهم.. قراءته قراءة واعية، عميقة، وتفسير أمدائه وفك ألغازه. وهو ما سهّل لرجال المسرح المجربين الاقتراب منه أكثر، ومحاولة الاستفادة من نظريته، وترجمتها عملياً في أعمالهم المسرحية.
ويرى د. سعيد كريمي إن الشرق أيضاً (علاوة على المكسيك التي ارتحل إليها آرتو، وجال في أرضها الحمراء، وخالط إنسانها القديم الأحمر، واستلهم طقوسه الاحتفالية في مسرحه) شكّل بالنسبة إلى آرتو مأوى روحانياً، وعالماً مطلقاً، وجد فيه ضالته، وهو ما خوّل له النظر بموضوعية إلى الثقافة الغربية، التي وجّه إليها فوهة بركانه النقدي، إذ انتقد بعنف مركزيتها وهيمنتها، وفجّر أسئلة بشأن تعالي العقل الأبيض، والثقافة البيضاء. وعليه، فإن دعوة آرتو إلى إعادة النظر في تفوق أوروبا وسموها، يُعد استراتيجية تدميرية وتفكيكية للثقافة الغربية الجامدة، في أفق نفض الغبار عن الثقافة الشرقية التي بهرته بسحرها وجمالياتها.
في اختصار، وبحسب د. سعيد كريمي، حملت الثورة المسرحية الآرتوية، موت المؤلف، وانبعاث المخرج. فإذا كان المسرح قد خضع ردحاً طويلاً من الزمن لغطرسة المؤلف المتعالي، فإن آرتو وضع حدّاً لهذا الاستعباد أمام اللغة الفيزيقية للتدفق، وملء الفضاء المسرحي، وإعادة النص إلى مكانه الحقيقي، من ضمن مجموعة نسق العرض.
كما دعا آنتونان آرتو إلى وجوب الاهتمام بالجسد، باعتباره لغة توليدية بليغة، وغير محدودة. وانتفض على سلطة وإمبريالية العقل الغربي، حيث كشف، أن الذين ألصقوا به تهمة الجنون، واحتجزوه في المصحّات العقلية، إنما استهدفوا إقصاءه، ومنعه من الإفصاح عن الحقائق، التي آمن بها، ما يثبت أن الجنون، ليس ظاهرة سيكولوجية فقط، بل هو مرتبط في الأساس بمؤسسات القمع والإقصاء البورجوازية. ويمكن التساؤل هنا عما إذا لم يكن هذيان وجنون آرتو سبيلاً آخر لممارسة المسرح بحرية، وبعيداً من كل أشكال الإرغامات والإكراهات الموضوعية.

 

أحمد فرحات –

http://main.omandaily.om/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *