سيمياء الثقافة الشعبية في النص المسرحي

ان التشكلات الرمزية والثقافية والفكرية التي نحاول بواسطتها قراءة تاريخنا وتشكيل وجودنا، تحتاج إلى إقامة علاقة معها بشكل واعٍ وعلمي مدروس؛ بحيث نستطيع – رغم هيمنتها علينا وولادتها معنا- أن نحقق بعداً عنها وتميزاً حتى لا نكون تابعين وتقليدين وعاجزين عن الإبداع. ولا يتحقق ذلك إلاَّ من خلال التقنيات والتطورات الحديثة في فنون الأدب كلها، سيما المسرح الذي أصبحت له مدارس ومنهجيات في الكتابة والعرض والإخراج وغيرها من مراحل صياغة نصه وإعداده وتقديمه للمتلقي.

وفي الثقافة الشعبية تكثر الشفرات الاجتماعية التي تحدد التفارق الاجتماعي، والتي تعبر عن هوياتنا الاجتماعية من خلال ما نقوم به من أعمال في الحياة اليومية من سلوك وأفعال ما يمكن أن نطلق عليها عادات أو تقاليد ، بالإضافة إلى طريقتنا في الكلام، وما نلبسه من ملابس متباينة أو متشابهة، وتصفيفنا لشعرنا أو طريقتنا في ارتداء الحجاب، وعاداتنا في المأكل والمشرب، ومحيطنا المحلي وممتلكاتنا، واستخدامنا لأوقات الفراغ، وطُرق سفرنا، وما إلى ذلك مما نقوم به في حياتنا اليومية أو في مناسباتنا الدينية أو الوطنية أو القومية.
وهذه الشفرات تشكل الواقع المعاش أو ربما المتوارث؛ غير أن (الواقع) من التصورات الغامضة، والمستعصية على الفهم والتفسير؛ ذلك لأن معناه المتداول لا يقوم إلاَّ على فرضية حدسية الآن (بصرياً وحسياً)، ولذلك فإن تلقينا له غالباً ما يحدده تواطؤنا مع منتجه. فالشفرات التي نتلقاها ضمن الثقافة الشعبية إنما هي الواقع الذي يقوم النص الأدبي بتمثله؛ والنص هنا لا يعيد صياغة الواقع كما هو واقع فعلاً إلاَّ من خلال عملية الاختزال الذي هو قدر كل نظريات النص، سواء ركزت على آليات إنتاجه، أو على آليات تلقيه. ليكون الكاتب هنا متلقٍ للواقع، دراس له، ومختزل لكل تلك الملابسات لمحاولة إنتاج معانٍ ودلالات جديدة من فعل ترميزي أو أيقوني لذلك الواقع.
يعترف أمبرتو إيكو أنه لكي يكتب الفصل 115 من روايته (بندول فوكو)، حين يخرج كاسوبون في ليلة 13 إلى 24 من يونيو بعد أن قضى ليلة جهنمية في معهد الفنون والمهن للتسكع في باريس وقد استولى عليه مس من الجنون، فيجوب زنقة سان مارتان ويخترق زنقة الدببة، ليصل إلى مركز بومبيدو ثم إلى كنيسة القديسة ميري، وجاب العديد من الأزقة قبل أن يصل إلى ساحة ليفوج. يعترف إيكو هنا أنه من أجل كتابة هذا الفصل قام بنفسه بهذا المسار ليلاً وبحوزته آلة تسجيل صوتي يسجل فيها كل انطباعاته، بل قام بأكثر من ذلك لقد كان مهتماً كثيراً بمعرفة ما إذا كان القمر في تلك الليلة بادياً في السماء، وفي أي موقع سيكون خلال ساعات الليل المتتالية، فاستعان بحاسوبه الذي يتوفر على برنامج قادر على رسم أديم السماء في كل فترات السنة، وفي أية ساعة ضمن خطي العرض والطول.
يقول إيكو: “لا تعتقدون أنني قمت بذلك لغايات واقعية، أنا لست زوالاً. إني فعلت ذلك فقط لأنني وأنا أروي أحب أن تكون الفضاءات التي أتحدث عنها حاضرة أمامي. إن استحضار هذه الفضاءات تجعلني أحيى داخل القصة ويساعدني على التماهي مع شخصياتي”.
ولذلك فإن الواقع (اليوم/ الأمس) الذي يمثل الثقافة كلها لا يمكن نقله إلى الأدب إلاَّ عبر إبداع واختزال وإعادة رؤية، ولذلك يقول عبد اللطيف محفوظ: “أن واقعية الشيء هي تاريخ أشكال إدراكه المتعاقبة إلى حدود لحظة إدراكه الفعلي من قبل ذات ما”؛ فالنص المسرحي هنا ينتج موضوعاته الدينامية من خلال إنتاج علامات جديدة من العلامات الأولى (الواقع) لتصبح الواقعية عبارة عن سيرورة من العلامات تختزل مجموع التجارب المعرفية والحسية لتلك العلامات.

 

رموز التراث وأيقوناته في المسرح
إن النص المسرحي كونه شكل من أشكال الأدب يعتمد على التشكل الترميزي والأيقوني للواقع، ذلك لأن المسرح يستخدم الرموز في الإحالة على مجموعة من الموضوعات الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية إلاَّ أنه لا يخرج عن كونه تمثيلاً للواقع فالرمز الذي يعرِّفه بورس بأنه: “إشارة تُرجع إلى الموجودة التي تدل عليها بناءً على قانون هو عادة مجموعة أفكار عامة، يعمل على تفسير الرمز على أنه يُرجع إلى تلك الموجودة”، فما فنون الأرجوز وخيال الظل في مصر وغيرها من البلدان العربية وفن الباكت والنيروز في السلطنة إلاَّ تمثلاً لمثل هذه الرموز.
وعلى ذلك فإن مجموعة الرموز التي يستخدمها كتَّاب المسرح تختلف باختلاف رؤية كل منهم وطريقة معالجته واختزاله لموضوعات الواقع ، وعلى أن التراث الشعبي هو مادة الثقافة الشعبية فإن المسرح غالباً ما يستقي مادة نصوصه منه محاولاً إنتاج المعاني والدلالات المرتبطة بكونه بناء ناتجاً عن سيرورة التلقي بافتراض كونه محايثاً للنص. ويعني ذلك أنه، رهين بتفاعل الكاتب مع مادة التراث وفي هذه الحالة سيرتبط إنتاجه بالتلقي الأول ومدى اختزاله له؛ ونحن قد نجد ذلك بوضوح في نص (البئر) لآمنة الربيع مثلاً الذي سيشكل بؤرة تجلٍ لمادة التراث التي استقت منها الكاتبة نصها.على أن النص الثاني (المسرحية) ليس انعكاساً للنص الأول (التراث/ الواقع) بل هو اختزال وإعادة إنتاج لتلك العلامات من خلال ما تقدمه لنا الكاتبة من أحداث وتداعيات هي ليست بالضرورة موجودة كما هي في النص الأول (التراث/ الواقع)؛ فالعلامات من مثل الأهازيج التقليدية (يا طيره طيري طيري.. تحول من أول من أول)، والأزياء، والضوء، والحركة، بالإضافة إلى حكاية النص حول الظلم الاجتماعي والارتباط الاعتقادي بالخرافة التي ستشكل الرمزية الثقافية للمتلقي، كل ذلك تقدمه الكاتبة في ثنائية (التراث/ الواقع) في محاولة لتفكيك وإعادة بناء علامات سابقة لإنتاج علامات جديدة تحتمل تأويلات عدة.
وعليه فإن مواد التراث عامة (العادات، والفنون، والأدب…) تشكل الأيقون الأول (الواقع) الذي سيحوله الكاتب إلى ترميز بصري (أيقوناً ثانياً) طبقاً لتأويلاته الخاصة من خلال تحويل الترميزات وإعادة بنائها، وهذا يقتضي بالضرورة تأمل تحليل سيرورة تدرُّج المؤولات تبعاً لطاقات الإدراك التي تبناها بورس، التي يوضح من خلالها أنه على الأقل في أشكال التواصل اليومية كلما كان المؤول المسؤول عن التدلال متطوراً، كلما كان مقتضباً (أي تركيبياً) ومتجاوزاً للتفاصيل الخاصة بالنوعيات وللأفكار العامة لأنه يساعد على المضي مباشرة إلى الموضوع المؤشر عليه وجودياً، وهذه التأشيرات إنما نجدها واضحة في النص السابق (البئر) حينما تتجاوز الكاتبة الأزياء التقليدية مثلاً إلى أزياء رمزية مستوحاة منها ودالة عليها من ناحية وعلى ترميزات النص الجديد من ناحية أخرى . في حين أننا لا نجد ذلك في نصوص أخرى من مثل نص (الخيمة) للكاتبة عزة القصابية التي تفضل أن ترتدي شخوصها أزياء تقليدية كما هي واقعاً وتنص بأن الشخصية “.. ترتدي زيا ذات لون داكن، الذي عادة ما ترتديه النساء العجائز في الماضي…”، إذن هي تقرر أن تضع (التراث/الواقع) – أو جزء منه- أمام المتلقي مباشرة في محاولة لتصويره ثم إعادة تأطيره من جديد ضمن الحكاية والحدث كونها علامات تشكل جزءاً من علامة أساسية هي المشهد بوصفه أيقوناً، الذي يختزل تلك العلامات بشكل دقيق ومركز؛ وهذا ما نجده عند إعادة بناء فن من الفنون على سبيل المثال في نص مسرحي كما فعلت القصابية في النص السابق في تلك الترانيم التي تقدمها احتفالاً بالمطر (سيل سيل سيلية حمامة فوق لوميه)؛ فإن هذا يستدعي اختزال الفن فكرةً وصوتاً وأداءً من خلال تضمينه للحياة الاجتماعية التي يتم ضمنها فهو ليس إلاَّ واحداً من عناصر هذه الحياة على أن يكون متضمناً للتأويلات السابقة التي استقاها الكاتب من الأيقون الأول (الواقع)، والتي ستتطور بدورها إلى تأويلات جديدة من قبل المتلقي.
إن التراث كونه علامة إيقونية في المسرح يشكل محاولة تحديد دلالات الواقع خلال الثقافة الشعبية؛ إذ يتم وصف شكل تعيين الواقع للموضوع الذي يعبر عما هو متمثل في ذهن الكاتب، بوصفه مظهراً للحقيقة، وهو حصيلة المدركات المترسبة حول هذه الثقافة في الذهن ومن ثمة يمكن القول إن هذه الأشكال المركزية والأساسية تشكل الوعي الذهني الذي يتحول إلى مجموعة من العلامات الذهنية، قبل أن يُحوَّل بوساطة الترابط الواقع واللغة عن طريق الفكر، إلى علامات تواصلية، وهي ليست إلاَّ أفعالاً موسِّطة لتماس مختلف أنواع الوعي، وإذن فهي أيقونات مجسَّدة في/ أو مجسِّدة للثقافة الشعبية .
إن المسرحية بوصفها نصاً بصرياً، منظومة علامات منظم وفق شفرات وشفرات تابعة ، تعكس قيماً ومعتقدات وافتراضات وممارسات معينة. وهذه الشفرات تتخطى النصوص المفردة، لتقوم بوصل ما بينها في إطار تفسيري يستخدمه منتجو النصوص ومفسروها؛ فعندما نولد نصوصاً مسرحية ننتقي الإشارات ونمزجها وفق الشفرات التي نألفها، وهذه الشفرات كما يقول دانيال تشاندلر “تساعد على تبسيط الظواهر، فتجعل التعبير عن التجارب أكثر سهولة، عند قراءة النصوص نفسرها وفق ما يبدو لنا أنه الشفرات المناسبة، يساعد ذلك في الحد من تعدد معانيها”.
وعلى ذلك تبدو المسرحية هنا كزمرة من العلامات الأيقونية والرمزية والإشارية بالإضافة إلى العلامات الوصفية المجسدة في علامة فردية. فالعلامات الوصفية هي كل الأوصاف (الألوان، والمؤثرات، والمسافات، والانطباعات) المتحققة في هذه المسرحية إنما تشكل فرادة مميزة للنص المسرحي بوصفه علامة دالة مركبة من مجموعة من العلامات المتعددة؛ إذ تشكل الحكاية العلامة التبئيرية التي ينطلق منها العرض ولا ينتهي إلاَّ إليها، وما توصل إليه بروب في كتابه (موفولوجيا الحكاية الشعبية) عندما درس الحكايات الخرافية من مفهوم للوظيفة إنما يشكل هنا – أي في المسرح- إنعكاساً أيقونياً لها؛ فوظائف عناصر الحكاية المتكررة في الحكايات الشعبية عموماً لا يمكن أن يتم تكراراها أيضاً في المسرح وإنما يتم تصويرها على شكل إيقوني دال عليها أو مشير إليها. ومن هنا تتكامل المكونات الأدبية، والفنية (البصرية) لتشكل علامة أيقونية تحوي علامات متعددة (لسانية، وإيمائية، ورمزية)، وللكشف عن كل تلك التمظهرات التي تشكلها الثقافة الشعبية في النص عامة وفي المسرح خاصة فإننا بحاجة إلى بذل المزيد من الجهد في الدراسة والتحليل المتخصص من قِبل الباحثين لما للنص من أهمية في تدوين وتوثيق وإثراء تلك الثقافة.

عائشة الدرمكية

http://main.omandaily.om

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *