“ماركيز” باختتام أيام قرطاج المسرحية

بالعوالم السحرية للروائي غابرييل غارسيا ماركيز، اختتمت أيام قرطاج المسرحية فعالياتها بالعاصمة التونسية من خلال عرض مسرحية “نوارة الملح”، المقتبسة عن نص لصاحب نوبل ومن إنتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بقفصة، وتكون المسرحية التونسية خاتمة عروض عربية وأفريقية عديدة شهدتها أيام المهرجان الثمانية.


وكان الجمهور على موعد مع المسرحية المقتبسة عن “القصة الحزينة التي لا تصدق لأيرنديرا البريئة وجدتها الضارية” للكاتب الكولمبي، والرواية التي تندرج ضمن ما يسمى في عوالم التجنيس بالنوفيلا -وهو نوع من الروايات القصيرة- سبق لها وأن نقلت إلى العربية بعناوين مختلفة منها “الأم الكبيرة” و”أيرنديرا البريئة” و”حكاية أيرنديرا البريئة”.
جاء الجمهور مدفوعا بأمرين، أولهما ما سمع من أصداء جيدة حول المسرحية، وثانيهما فضول أدبي آخر هو مشاهدة ماركيز تونسيا، فدفعت المسرحية عشاق المسرح وعشاق الأدب على السواء لمشاهدتها.

“أيرنديرا” التونسية
هي قصة الصبية اليتيمة أيرنديرا -“فريدة” في نسختها التونسية- التي سقطت في أسر جدتها المتسلطة التي فقدت زوجها وابنها -والد أيرنديرا- فدفنتهما بالبيت في صناديق قابلة للرفع، وبعد أن تعرض بيت الجدة الضارية إلى حريق بسبب سهو أيرنديرا انتقمت الجدة من حفيدتها، وجعلتها أداتها للكسب وتعويض خساراتها، تبيعها للباحثين عن المتعة، وحولتها إلى غانية تقبض عنها مقابل عرضها لأصحاب الشهوات من المارقين والمهربين في الصحراء.

وتبقى أيرنديرا تعيش داخل هذا الاستبداد الذي حولها إلى خادمة تقضي طوال النهار في إشباع الغرائز، وما بقى منه في الاستجابة لطلبات جدتها في أشغال منزلية شاقة، حتى ظهر العاشق الهولندي الذي أحبته وأحبها، وبدا كأنما الحب سيغير حياته، فلم يجدا من حل غير القضاء على الجدة المستبدة فحاكا خطة لقتلها، ولكن ما إن رأت أيرنديرا جدتها مقتولة حتى لاذت بالفرار واختفت.

القصة تروي رحلة عذاب مريرة لفتاة تسقط في فريسة أحزان امرأة كرهت الدنيا وفقدت الإحساس بالحنان والحب عندما سرق منها زوجها وابنها وتركها تهذي في الصحراء وتطلق حنجرتها بالأغاني الحزينة.

تبدأ المسرحية بوصول غرباء على متن سفينة عجائبية في الظلام، لينطلق العرض برجل وامرأة يتبادلان دور الراوي على طريقة القوالين الشعبيين يحدثون الجمهور عن حكاية امرأة عجوز تعيش مع حفيدتها الصبية في الفقر والخلاء بعد فقدان الأب والزوج. امرأتان تصارعان الوحدة والمجتمع الذكوري الأشبه بالوحوش الجائعة التي تضطر الجدة أن تقدم له الصبية الجميلة قربانا.

إن الالتفات إلى هذه القصة لماركيز التي نشرت ضمن مجموعة قصصية بنفس عنوان القصة كان موفقا إلى حد ما، فالجمهور الذي جاء لمشاهدة المسرحية لم يكن في أغلبه قد اطلع على القصة الأصلية لأنها -على الرغم من ترجماتها الكثيرة- لم تعرف شهرة روايات أخرى مثل “مائة عام من العزلة” أو”خريف البطريك” أو “الحب في زمن الكوليرا” وغيرها، ومن ثم فالمشاهد لم يكن تحت تأثير النص الأصلي الذي اقتبست منه المسرحية، ولكن المسرحية في المقابل قد ربحت حبكة جيدة وحكاية مشوقة وعميقة نسجها أحد عباقرة الرواية في القرن العشرين. 

تراوحت لغة العمل بين العربية الفصيحة والعامية التونسية، خص العامية للشخوص على الخشبة والعربية الفصيحة للراوي العليم، الذي يأتي صوته من الغيب ليسرد الحكاية ويحبك الحبكة.

من الخطأ إلى الخطيئة
تنطلق المسرحية كما القصة من مأزق هو سهو البنت “فريدة” عن إطفاء الشمعة التي أدت إلى احتراق البيت، فما كان من الجدة إلا أن حولت خطأ البنت إلى خطيئة وحملتها وزر سهوها إلى ما لا يمكن أن تتصوره مخيلة، فجعلتها تتاجر بجسدها بذريعة استرداد الدين الذي عليها. ومن هنا تسير الحكاية بين الإذعان للمصير الجديد والتمرد عليه من فريدة في مواجهة جدتها الضارية.

ولم يكن الاقتباس إلا اقتباسا موظفا لما يمكن أن تتعرض له المرأة في تونس في ظل تنامي تيارات متشددة تستهدف جسد المرأة، وتسعى إلى اعتقاله بكل الطرق كما في الرواية والمسرحية، من خلال تقييد الجدة للصبية من قدميها بالأغلال لإجبارها على العمل المهين وبيع جسدها.

كما كان لخاطفيها المقنعين من الكهنة الذي ألبسوها الثوب الخشن باسم “قانون الرب” وإجبارها على الاستجابة لشهواتهم إسقاط آخر على ما يجري وما يخشى أن يجري للمرأة في البلاد العربية التي تتهددها رؤى منغلقة وقاصرة لدورها وكينونتها.

ولئن ظلت المسرحية وفية لأحداث الرواية فإنها فقدت جزءا مهما من روحها التراجيدية لصالح خيار جمالي آخر هو الكوميدي، الذي لم يكن موفقا كثيرا، كما فضل المخرج أن يتخفف العمل من بعده العجائبي فلن نرى من سحرية ماركيز إلا مشهدا واحدا تظهر فيها النعامة تتكلم على الخشبة وكان يمكن لهذه الروح أن تتواصل على امتداد المسرحية.

استعان المخرج علي اليحياوي بمعية إبراهيم البهلول بموسيقى وأغان تونسية وأحيانا جزائرية ذات صلة بالأجواء الموريسكية الحزينة التي تروي آلام الفقد الذي عاشه المبعدون في مقاربة لأنغام ما ذكره ماركيز من أغان حزينة كانت تغنيها الجدة بعد أن فقدت زمنها الجميل مع زوجها وخاطفها وابنها.

واختيار هذه الأنغام كان منسجما مع أصل العمل الكولومبي ومتناغما مع البيئة العربية الجديدة التي أسس فيها اليحياوي لعمله، فكان الفلامنغو حلا فنيا راقيا. ونمثل لذلك بأغنية “يا غربتي في بلاد الناس” وهي للمغنية الجزائرية ذات الأصول اليهودية لين موتني.

ولعل هذا الاشتغال على المشترك الثقافي العربي من شأنه أن يضمن للمسرحية نجاحا عربيا ومغاربيا منتظرا. وباستثناء بعض الهنات في الضوء خاصة كانت المسرحية جيدة وجديرة بحفل الاختتام.

وشهدت أيام المهرجان -التي امتدت من 22 إلى 30 نوفمبر/تشرين الثاني- عرض 14 عملا من الأردن والجزائر وفلسطين والكويت وليبيا والمغرب ومصر والسعودية واليمن وعُمان وسوريا، إضافة إلى عروض من بلدان أفريقية أخرى وأوروبية.

المصدر:الجزيرة

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *