التجريب.. المسرح.. والقراءة المغايرة

كثيراً ما نسمع مفردة التجريب تتردد على ألسنة أغلب المشتغلين بالفن المسرحي من نقاد وكتاب ومنظرين وعاملين بكل تخصصات الفن المسرحي، بل إن هذه الكلمة (الطلسم) بدأت تتداول بكل اللقاءات والحوارات والمهرجانات، وقد تكون بلا مبالغة حتى في منامات المسرحيين.
هناك مهرجانات حملت هذه المفردة عنوانا لها ولعل أشهرها مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي ، وهناك فرق مسرحية حملت لواء التجريب وطرحت طريقة عملها تحت ما يسمى التجريب، بل إن هناك مسارح سميت تيمنا بهذه المفردة ،ومنها في العراق منتدى المسرح التجريبي والكثير من البلدان العربية.
و هنا نتساءل:


هل نحن كعرب اكتشفنا هذه المفردة حديثا؟ وبدأت تأخذ كل اهتماماتنا منذ أن دخلت علينا في القرن الماضي ؟
هل نحن مجرد قراء للطروحات الغربية فقط  في حال كنا متلقين جيدين، لما نقرأ؟ ألم يكن اسخيلوس وسوفكلس ويوربيدس مجربين لأنهم أحدثوا تغيرا في  العملية المسرحية من خلال عدد الممثلين.
هل قدم العرب خصوصية مسرحية عربية مهما كان شكلها، وبالتالي نذهب إلى اتجاهات مسرحية كي نشتغل عليها بعد أن استهلكنا كل التجارب السابقة ، وأصبحت غير مجدية ولا تستفز المخيلة؟ وبدأنا نجرب أشكالا أخرى لعلنا نجد ضالتنا المسرحية فيها ؟
هل  كل ما يقدمه المسرح الغربي الآن يندرج تحت ما يسمى بالتجريب؟
من حمل لواء التجريب في المسرح باللغة العربية ؟
هل حقا  ما نقدمه كمسرحيين عرب تحت يافطة التجريب، عروض تجريبية؟
أسئلة كثيرة تدور بذهني كلما سمعت كلمة (التجريب) أو (عرض تجريبي)، وكلما شاهدت عرضا أو قرأت مقالة نقدية عن عرض مسرحي ما.
هل القصدية هنا  في هذه الطروحات ،بأن هذه التجارب (العروض المسرحية ) هي لمخرجين يمارسون الإخراج لأول مرة ، وبالتالي هذه أولا تجاربهم الإخراجية، ولذلك يطلق عليها تجريب(من التجربة ) جرب- يجرب- تجريبا، بمعنى انه جرب أن يكون مخرجا، وبعد ذلك اكتشف بعد تجربته تلك بأنه ليس له علاقة بالفن وانصرف إلى مجال آخر لعله يجد فيه ضالته؟ 
إذا كان المسرح في المنطقة العربية قد حقق خاصيته المسرحية، إذا افترضنا بأنه مسرح متجدد بمعزل عن التجارب العالمية ويعتمد على موروثه ويستند إلى تجارب مهدت لخاصية مسرحية عربية شبيهة بالطقوس الدينية بأثينا، أو المناسبات الدينية التي شكلت بوادر مسرحية رغم عدم وجود القصدية بها وإنما كانت مجرد احتفالات دينية بحته، وبالتالي بدا في البحث عن أشكال مسرحية مغايرة لما قدمه سابقا من أشكال مسرحية، يحاول بذلك كسر الجمود داخل الشكل المسرحي وكذلك يعلن تمرده على الإرث المسرحي الذي نراه بمعظم العروض.
طيب إذا كنا قد اكتشفنا ذلك المارد بدواخلنا وأعلنا عن تمردنا الإبداعي، لماذا لا نزال نقلد الغرب بكل تقليعاته  حتى لو كانت لا تتفق مع السمات الثقافية والاجتماعية لبلداننا، لماذا لا يتجه الغرب إلى خاصيتنا المسرحية، باعتبارنا منتجي ثقافة أيضا  ونتشدق بأننا أحفاد سلالات حضارية عظيمة؟ ما هي الاستفادة الحقيقية من هذه السلالات؟ 
لماذا اتجه الغرب إلى شرق آسيا، والكثير منهم يدين للشرق بأنه طور طروحاته المسرحية من خلال اكتشافه لسر سحر الشرق، وهناك نظريات مسرحية كانت مشاريع واتخذت حيز التكامل والإعلان عنها وكان الشرق هو المحفز الأول لها.
هل  كل ما ينتجه الغرب هو مسرح تجريبي؟ ولماذا نطلق عليه مسرحا تجريبيا؟  أليس هو عرض مسرحي فقط؟ 
ما   هذا الطلسم (التجريب) الذي يشغل معظم المسرحيين العرب ولا نغالي إن قلنا كلهم؟
هل ما نشاهده الآن من عروض مسرحية عربية، هي تجريبية؟
هل هذه المفردة (التجريب) كذبة صدقنا بها، لأن الغرب أطلقها، أو لم يطلقها وإنما تُرجمت خطأً؟
هل قراءتنا المغايرة للنصوص المسرحية، والرؤية الأخرى التي نقدم بها تلك القراءة، هو تجريب،وهذه وظيفة وقصدية الإخراج لأي نص مسرحي؟
هذا هو تصور أو فهم آخر للنص، قراءة مغايرة للنص، وبالتالي هذا الفهم أو القراءة يختلف من شخص إلى آخر ومن مخرج إلى آخر، لأن العملية المسرحية برمتها تعتمد على مرسل ومستقبل، والنص المسرحي هو أيضا مرسل أو كما تقول آن بروسفيلد، مُصدّر، والقارئ هو مستقبل، إذاً أنا كقارئ-مستقبل، وعملية الاستقبال تختلف من شخص إلى آخر، الكثير من المسرحيين بمختلف دول العالم قدموا مسرحية وليم شكسبير (الملك لير)، لكن شكل لير بالعراق يختلف تماما عنه في اليمن مثلا، وشكله بأوروبا يختلف تماما عما قدم بالعراق واليمن.
لأن هذه القراءة المغايرة لمسرحية الملك لير  التي نسميها بعروضنا تجريبا، تخضع لمعطيات كثيرة داخل مجتمعاتنا العربية، التأثيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية كلها تخضع لهذه القراءة أو التفسير الجديد لنص الملك لير ، ولعل الهم السياسي هو احد أبرز الأشياء التي تترك أثرها في هذه القراءة، وبالتالي تكون هذه القراءة ، فقط رؤية مغايرة، تفسير آخر للنص ناتج عن الاختلاف الثقافي والحضاري بين الشعوب وبين العادات والتقاليد، لكن الذي يعاب على هذه القراءات هي أنها لا تؤسس لشيء وإنما وليدة تجربة واحدة ، ولم يسعَ القائمون عليها من اجل تطويرها والتنظير لها ،وبالتالي تصبح نهجا، وهذا عكس ما هو حاصل بأوروبا ، عدم الاستقرار السياسي هناك والحربان العالمية الأولى والثانية الطاحنتان، هما اللتان ولدتا مسرحا حقيقيا ، ظهرت تيارات مسرحية كرد فعل على الحرب مثل : مسرح الاحتجاج والغضب  ليعلن غضبه ورفضه لكل ما هو سائد آنذاك ، ومسرح القسوة وكذلك العبث، وبدأت دوامة البحث ومازالت لولوج عوالم مسرحية لم تكتشف بعد ، وأخذ الكثير بالتنظير للكثير من هذه الأشكال.

قراءة  فسيفولود ما يرخولد المغايرة
نرى أن الثورة الحقيقية (التجريبية ) في المسرح حدثت في الأدب المسرحي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث تنوعت الاتجاهات المسرحية، وبدأت تظهر كتابات أدبية مسرحية مهمة وبدا الكتاب بالتنقل بين الاتجاهات من الواقعية إلى الطبيعية ومن السريالية إلى التعبيرية و الخ.
هذه الاتجاهات المتنوعة في الأدب المسرحي ، بدأت أدبا وانتهت على الخشبة كعرض مسرحي ، ولم يقتصر التطور على العرض المسرحي ، بل شمل الممثل والفنون المسرحية الأخرى أيضا.
لهذا ذهب الكثير من المجربين إلى النص الكلاسيكي ، لما يتمتع به من مميزات لا تتوفر بالنصوص الحديثة، النص الكلاسيكي يخلق عملية تحدٍ للمخرج ، المخرج الذي يطمح دائما لإيجاد لغة مسرحية تميزه عن غيره من المخرجين (هنا نقصد لغة العرض الصورية والحركية وليست اللغة المحكية، كحوار لغوي)، قد تكون التكاملية التي يتمتع بها النص ،أو شهرة النص، شهرة المؤلف، هي الحافز لقدوم المخرجين بالعمل على هذه النصوص، الكثير من النصوص هي معروفة وقد تكون مقروءة ، من قبل الكثيرين حتى وإن كانوا ليسوا من أهل الاختصاص ، وإنما كمتذوقين، ركب الكثير من المخرجين قارب المغامرة وسعوا بقصدية لصدم المتلقي بعروضهم ، ولعل أشهرهم المخرج الروسي مايرخولد واشتغاله المهم على نص (المفتش العام) لغوغول.  
التجريب في النص الأدبي
بدا البحث عن قراءة مغايرة للعرض المسرحي، من خلال النص الأدبي ، وهذا ما فعله (فسيفولود مايرخولد) حين أخرج مسرحية المفتش العام ،(غوغول) ، اعتبر الكثير من النقاد خطوة مايروخولد هذه فيها إساءة كبيرة للتراث الأدبي الروسي ، لما تحمله هذه المسرحية من إرث ثقافي كبير بالذاكرة الجمعية للمجتمع الروسي، وكذلك لمؤلفها.
دعا مايرخولد إلى تحرير الفن المسرحي والإبقاء على جوهر المسرح ، واعتماد وسائله التعبيرية،لغته الخاصة به ،نابعة منه، وكذلك موقفه من النص ، ومشروعية التصرف به ، كيفما تحتمه رؤية المخرج ، من إضافة وحذف وتعديل ، ويكون النص بهذه الرؤية أو القراءة كخلفية للحركة، أي تكون الحركة في المقام الأول عند مايرخولد ومن ثم يأتي النص.
لكن الجدير بالاهتمام نجد بان مايرخولد ، لم يلجأ لكتابة نص خاص به ، وفق ما دعا إليه من ثورة بصرية ضد ما كل يقدم من عروض مسرحية ، كانت سائدة في ذلك الوقت، نجده أيضا انطلق بقراءته الجديدة أو رؤيته الجديدة للشكل المسرحي الذي ينشده ، من النص الأدبي، وجسد نظريته في (الكيزياء-علم حركة الجسد) على النص الأدبي ، كان النص الأدبي هو الأرضية الأولى لرؤيته الحركية ، التي يشكل عليها عرضه المسرحي، بمعنى انه أراد تحويل المنطوق(النص الأدبي) ، إلى منطوق جسدي ،يجسده الممثل، لهذا اهتم كثيرا بجسد الممثل.

 

أحمد شرجي

(1-2)

http://www.almadapaper.net


 

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *